إسماعيل الملحم
التفكير فعالية إنسانية تتضمن نشاطاً عقلياً مركباً يحشد فيه الإنسان فعاليات إرادية متعددة (انتباه، تخيّل تذكر..) إضافة إلى الدور الذي يؤديه الذكاء والطاقة الإبداعية للوصول بالتفكير إلى غاياته في موقف ما من المواقف التي تستدعي التفكير، أو تستدعي القيام بحل مشكلة تطرأ في أثناء النشاط اليقظ، أو في الإجابة على أسئلة تطرح.
وتكون هذه الفعالية دوماً ذات محتوى. حين يكون المرء في حالة تفكير فهو يوجه هذه الطاقة نحو موقف أو مشكلة أو شيء. وتكون الحلول التي تنتج عنها متميزة بكفاية عالية بالقياس إلى الحلول العفوية أو بردود الأفعال الانعكاسية التي تصدر عن الإنسان في بعض الحالات. ومن المفروض فيها، أيضاً، أن تكون رقياً من غيرها وأن يكون بموجبها المجال واسعاً لتوفير الوقت والجهد.
ولكونها تتصف بالتعقيد، فإنّها لا تقتصر عادة في إعطائها الحلول على ما هو آني ومحايث زمانياً، بل تتجاوز ذلك إلى تحقيق غايات مستقبلية، ففيها قدرة على استشراف المستقبل ومعرفة عواقب الأفعال والتنبؤ بحدوثها.. وهذه القدرة تختلف بطبيعة الحال، من شخص إلى آخر، وقد تكون مقارباتها صائبة أحياناً، وقد تبعد أحياناً أخرى عن ذلك إلى حالات من الخطأ، أو حالات تتراوح حدي الخطأ والصواب.
ويغدو هذا النشاط العقلي اليوم مركز اهتمام المهتمين بالقضايا النفسية والتربوية والاجتماعية، ربما أكثر من أي وقت مضى. ففي تعدد جوانبه وشمول فعالياته للقدرات العقلية كافة تلوح بوارق الأمل في أن يكون الإنسان أكثر قدرة على التكيف مع عصر لا يستطيع فيه المرء استيعاب كل ما يصله من معارف ومعلومات وأفكار جاهزة، حيث أنّ الذاكرة بمفردها، إذ صح تحديدها عن سائر الفعاليات الأخرى، ليس بمقدورها مهما بلغت طاقتها في الحفظ وخزن المعارف والخبرات أن تلبي حاجة الإنسان إلى تلاؤم متوازن مع عصر متفجر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تنوع الأنشطة الإنسانية لم يعد يجدي معه الاعتماد على أنماط التفكير التي ترسم التجربة حدودها، أو تعينها بعض طرائق التفكير التي اعتاد الإنسان عليها في تطبيق بعض الأنشطة المعرفية، وكأنّ هذه الطرائق قادرة على وصف البلسم الشافي الكافي في مواجهة أية صعوبة معترضة. وبالتالي كأننا لا نحتاج إلى عناء كبير لمنع التفكير في هذا الجانب أو ذاك بوجود طريقة أو مجموعة طرائق تكوّن آلة هذا التفكير (الأورغانون، بحسب أرسطو) أو (الإرغانون الجديد بحسب بيكون)، فما تزال متسلسلة وفق قواعد لا تخالفها على الانتقال عبر الحدود المتوسطة إلى النتائج المتوخاة، وإن كان الاستنتاج الرياضي والاستقراء العلمي قد عبرا في نقلات معرفية انقلابية، مما جعل المتشبثين بطرائقهم التقليدية إلى إعلان عقمها سواء في مناهج البحث الرياضية أو العلمية، وكان لابدّ طبعاً من مراجعة مناهج البحث في العلوم الإنسانية وتدارك مسالك الجمود والمراوحة في المكان.
ينطلق الفكر العلمي الجديد، اليوم، بدأب إلى مجالات البحث عن أساليب جديد للانتقال إلى المعارف الأكثر شمولاً، والقواعد الناظمة للكون الكبير كما هي بالنسبة لعالم الصغائر المتناهي في الصغر.
وتبدو الحاجة إلى تدريب التفكير ماسة بجلاء أكبر في ظروف تعاظم الدور المهم لوسائل الاتصال الحديثة التي تمطر الناس على امتداد ساعات نهارهم وليلهم بالمعلومات والمعارف الجاهزة الموجهة منها وغير الموجهة. وهكذا يتعرض الفكر الإنساني لقلق يتعاظم يوماً بعد يوم بسبب من أخطار ماثلة يتعرض لها حيث أن ثورة وسائل الاتصال قد أخذت تنذر بشكل خطير باستقالة التفكير وتقاعد الفكر عن العمل والبحث والنقد والاكتشاف. ولا تقف هذه النذر عند حق توقيف فعالية التفكير وتعطيلها إلى حين بقائها عند مستوى معين، بل إنّ ما ينتظرها أبعد خطراً من ذلك. فالمخ الذي استقر البحث فيه وعنه على أنّه مكان التفكير منذ أيام الفيلسوف الأغريقي (هيبو قراط) الذي عثر، كما يقولون، على عقل الإنسان داخل جمجمة الرأس إي في المخ الذي هو معرض اليوم إذا ما استمر الاهمال في استخدامه غير الكفي لخطر تحدثت عنه ووصفته الباحثة الأمريكية (ماريان دياموند) من خلال تجاربها الكثيرة على الحيوانات قائلة إن قشرة المخ مشروط نموها بوجود بيئة ثرية تحفزه على البحث وعلى المزيد من الاكتشافات وعمليات التكيف.
لكن الأفكار الجاهزة والمعلومات المعلبة التي أخذت تسوقها وسائل الاتصال الحديثة إن استمرت على ما هي عليه فإنّها قد تؤدي إلى تعطيل المخ بسبب عدم استعماله، وهذا سيؤدي إلى تساقط التغصنات العصبية داخله وهنا سينتج أن تصبح خلايا المخ أكثر إلتصاقاً. وهذا هو الذي تخوفت منه (ماريانا دياموند)، لذلك أطلقت تحذيرها موجهة كلامها للإنسان قائلة:
"استعمل دفاعك وإلا فقدته".
ففي عصر تدفق المعلومات حيث تغدو الذاكرة عاجزة عن اللحاق بركب المعرفة الذي يزخر بالمعلومات المتزايدة يوماً بعد آخر وفق (سلسلة هندسية) قد لا تضارعها سلسلة استهلاك الموارد في التزايد التي تحدث عنها (مالتوس).
وإضافة إلى ما أخذت تحدثه ثورة (الحواسب) من تغير في حفظ المعلومات وخزنها.، هذا ما يطرح أمامنا السؤال تلو السؤال عن جدوى الذاكرة البشرية ذات الطاقة المحدودة إلى حد كبير. وهل في مقدور الذاكرة عند الفرد الإنساني أن تجاري الحاسوب ومخازن المعلومات وبنوكها..
- التربية وتعلم التفكير:
تجد التربية نفسها؛ إزاء الأسئلة السابقة، امام امتحان عسير، قد يكون اجتيازه صعباً فإمكانات المدرسة محدودة، والعنصر الذي تكل إليه تحقيق أهدافها – أي المعلم – يشعر بالغبن ويعاني من تسلط ظروف قاهرة تمنعه من حرية العمل وتحجز قدراته إلى الإنطلاق، كما إنّ حملة واسعة كبيرة تتعرض لها المدرسة تندد بدورها وتصفها بالعجز، بل إنّ الأمر أخذ يتعدى ذلك إلى الدرجة التي يدعو أصحابها بإلغاء المدرسة التي غدت غير قادرة على تلبية حاجات الفرد والمجتمع.
لكن هذا الجو التشاؤمي – لحسن الحظ – يجد من يخترقه ويدافع عن دور المدرسة الذي لا يمكن أن يستغنى عنه، لكن يجب أن تأخذ وظيفتها التعليمية منحى آخر. وهذا يعني الإقلاع عن الأساليب التقليدية والدور التلقيني الذي يحصر وظيفة التربية في تزويد المتعلم بالمعلومات، تلك الوظيفة التي باتت لا تناسب التطورات المعاصرة.
ذلك أن حشو الذهن بالمعارف والمعلومات وحفظ القوانين والرسوم والمصطلحات لم يعد ذا جدوى. لذا فالوظيفة الرئيسة اليوم تتمثل في تدريب المتعلم على "تعلّم التفكير" الذي يمكنه من مواصلة تعلمه تعلماً ذاتياً. وهذا النمط من التعلّم من شأنه أن يمكن الإنسان من امتلاك عادة التفكير الموضوعي. فليست الآراء هي ما يعوّل عليها في نتائج التعلّم وإنما الأفكار، فثمة فروق بين هذا وذاك. فلا تعدو الآراء أن تكون ذات صبغة ذاتية، أما ما أصبح اليوم مطلوباً هو الأفكار التي تكون بعيدة عن الذاتية. والعادة الثانية التي يهدف التفكير إلى تحقيقها هو أن يأخذ الفكر بالنسبية ويبتعد عن إطلاق التعميمات والأحكام. فمن تكون لديه عادة الإطلاق في التفكير يكون، في واقع الأمر، بعيداً عن المرونة ولا يتمكن من رؤية الأشياء والحوادث في تغيرها.
أمّا الصفة الثالثة لنمط تعلّم فتتمثل في قدرة المتعلّم على نقد الأفكار، يستطيع أن يكشف بطريق الحوار والتساؤل عن التناقضات ويعمل على اكتشاف الحقائق بوسائله الخاصة، ويقتضي الموقف النقدي عدم الاقتصار على ما يتلقاه المرء من أفكار فحسب، وإنما أيضاً بما ينتجه فكره أيضاً. ولا تعني تنمية الفكر النقدي الوصول بالمتعلم إلى السلوك الريبي، فالبون جد شاسع بين الريبية من جهة، والتحرر من الرأي الآخر من جهة أخرى. وهذا يعني عدم الخضوع أو الاستكانة لسلطة الفكرة المقروءة أو المسموعة أو الصادرة عن أعلام في الاختصاص في أي مجال من المجالات.
- التعلّم على تعلّم التفكير:
يهدف تعلّم تُعلّم التفكير إلى بناء فكر أصيل متفحص. والبداية إلى بلوغ ذلك تكون في تصحيح المفاهيم التي يحملها المتعلمون والتي تكون، في الأغلب، غامضة محدودة الأفق غير دقيقة، فيفسح المجال أمام المتعلّم للتأمل والتدقيق في فحص هذه المفاهيم بمزيد من الجهد والصبر، إذ أنّ المعرفة – كما يقولون – (لا تفتح أبوابها من الطرقة الأولى).
يستند هذا التعلم إلى دعائم تتمثل في مواجهة المشكلات التي تعترض المرء والتي تحدث لديه، في العادة، حالة أو حالات من عدم التوازن، ويصعب في البداية على الإنسان مواجهتها وإيجاد الحلول اللازمة لها، ويعود السبب في ذلك إلى ما تكون عليه من غموض لا يساعد على فهمها مما يجعلها غير ذات معنى. وليس في الأمر أية غرابة، فلا يكون الإدراك الأولي للمواقف التي تواجه الناس، على الأغلب، قادراً على إفساح المجال والفرص أمام المتعلم لإعطاء الحل الصحيح أو المناسب، ولا يسمح بتخطي المشكلة التي تبدو وكأنها نوع من الطلاسم أو الألغاز للوهلة الأولى، ويتطلب الموقف إعادة النظر وتنظيم الموضوع تنظيماً جديداً يساعد في تصحيح الإدراك. ويستطيع الأشخاص تنظيم سلوكهم إلى حد كبير عن طريق تصور النتائج التي قد يولدونها بأنفسهم، أي أن يفسح المجال للمتعلم للقيام بعملية تنظيم ذاتي لمدركاته.
التعلّم الفعال في حقيقته وصورته المألوفة يكون انتقالاً من حالة يكون الموقف فيها أو الموضوع بلا معنى، أو من حالة توجد فيها ثغرة يكون التغلب عليها بحاجة إلى جهد وعمل، أو أنّ الموقف يكون غامضاً – إلى حالة جديدة يصبح معها للأشياء معنى أو يتغلب فيها المتعلّم للتوّ واللحظة على الهوة المميّزة.
ومما سبق يظهر جلياً أنّ التعلّم على التفكير لا يقوم على الحفظ والاستظهار اللذين قد يزيدان في كمية المعارك لدى المتعلم، لكن هذه المعلومات سرعان ما تنبهت وتضعف فتضمحل من الذاكرة.. وهي أيضاً عندما تكون طازجة قد لا يستطيع المتعلم أن يدخلها في منظومة تساعده على تنمية تفكيره وطريقة تعامله مع المشكلات، التعلّم الفاعل يحتاج إلى إفساح مجال لكل ما من شأنه أن يجعل التفكير مرناً وقادراً على متابعة التعلم، وليس التعليم الموسوعي ما يطلب اليوم، كما أنّه ليس مطلوباً انتظار الوصفات المعلبة والجرعات الجاهزة بل التفكير المستعد دوماً للاستجابة المناسبة والذي يمهد لتكوين متعلم يستطيع اختيار قراراته بحرية ودون قيود، ولا يكون ذلك بدون دربة أو مران على حل المشكلات التي تعترضه، لا متعلم يتخذ قراراته بآلية تامة ودونما جهد فكري.
يساعد تعلّم التفكير على إيجاد نمط من الناس يكونون دوماً في حالة تعلّم لا ينتابهم الجمود، ولا يصلون في حياتهم العقلية إلى حالة من السكون والركود، ويكونون قادرين باستمرار على القيام بعمليات الملاحظة والوصف والتنبؤ والفهم.
ويمكن أن تؤدي نتائج هذا التعلم إلى أن يصبح المتعلم في حالة استعداد دائمة للحصول على معلومات ذات معنى ودلالة أكثر بكثير مما يمكن أن تؤدي إليه الطرائق التقليدية والتلقينية. ومن خصائص ذلك أن مثل هكذا تعلم يدوم طويلاً ويتجدد باستمرار وتكون نتائجه أكثر عمقاً وأرسخ في سلوك المتعلم، وذات آثار أبعد في حياة المتعلم المقبلة..
إذ يتعود المتعلم على البحث والتأمل وتحليل المعلومات وتنظيمها ووضع أفضل الحلول لها، ويضمن ذلك أن يكون باستمرار مشاركاً مشاركة فعالة خلال مراحل التعلّم كافة.
وتختلف طرائق تعلّم التفكير عن الطرائق الأخرى كونها لا تقيد فكر المتعلّم بعادات فكرية محددة يعتاد عليها ويحصرها في عدد من القنوات المستعملة باستمرار. لتوضيح ذلك نضرب مثالاً أورده (بيتر فارب) في كتابه النوع الإنساني ويبين هذا المثال أن تحكم بعض العادات الفكرية قد لا يساعد على إيجاد الحلول المناسبة دائماً:
"حدث ذات مرة أن انحشرت سيارة شحن كبيرة تحت جسر حديدي قليل الارتفاع في ولاية (كنتكي) الأمريكية، لم يستطع السائق تحريكها إلى الأمام أو إلى الخلف فاستدعي المهندسون وخبراء الجسور من الشركة التي نفذت الجسر لحل المشكلة فتقدموا باقتراحات عدّة أهمها فك الجسر ثمّ رفع القطعة الوسطى منه بوساطة رافعات ضخمة، أي أنهم لكثرة انشغالهم بتركيب الجسور كان تفكيرهم منصباً على الجسر لحل المشكلة حتى تتمكن الشاحنة من الخروج، لكن شاباً صغيراً يعمل بائع صحف ولا يعرف شيئاً عن هندسة الجسور – أي أنّه ليس حبيس أساليب تفكير معينة – طلع بفكرة أفضل بكثير مما فكّر به المهندسون والخبراء، إذ أنّه اقترح تخفيف الهواء من عجلات السيارة فيقلّ ارتفاعها بقدر يحررها من هذا الحشر".
فقد نجح هذا الاقتراح بجهد ووقت أقل بكثير وبدون أي كلفة.
فمن الاهمية بمكان ألا ندع المتعلّم أسير طريقة واحدة أو طرائق محددة وإنما أن يمتلك تقنيات مختلفة متعددة الاتجاهات وإعطاؤه الحرية الكاملة في البحث والمناقشة على أن يكون جو التعلّم مفتوحاً للنقاش بحيث يعطي المتدرب إحساساً بالكفاءة والقدرة على التحكم بمصيره والتأثير في القرارات ذات العلاقة بموضوع التعلّم وحياة المتعلّم ذاته. وليتحقق ذلك يجب أن يتمحور التعلّم حول الحياة، بحيث يكون التفكير مرتبطاً بوجود مشكلات تتحدى ذهن المتعلم فتبعث لديه نشاطاً عقلياً وعملياً يدور حولها. وليست الحياة، بالنسبة للبشر، في واقع الحال، سوى سلسلة من المشكلات يواجهونها باستمرار ويحاولون حلّها. وثمة بون شاسع بين إنسان يتجه ذهنه نحو المشكلات التي تعترضه فيسعى إلى حلّها بما يملك من خبرات ومهارات سابقة، وبين آخر يستسلم لها ويلتمس لها حلولاً جاهزة يتوسل إليها عند الآخرين أو في بطون الكتب التي تقدم حلولاً جاهزة، كما يحصل لدى الطلاب في الامتحانات التقليدية إذ أنهم يسعون لالتماس الحلول والإجابات في كتب ونشرات المسائل المحلولة والملخصات والمواضيع الأدبية الجاهزة بدلاً من تشغيل تفكيرهم واكتشاف الحلول وكتابة الموضوعات بجهدهم الذاتي. فالأوّل لا ينتظر حلاً يأتيه جاهزاً ناجزاً بل يسعى لاكتشافها وحلّها بنفسه. وشتّان بين النتائج في كلتا الحالتين.
فمن يستسهل استجداء الحلول ويكتفي بالجاهز منها لا يتطور تفكيره، بل يظلّ ذا تفكير نقلي يتأثر بما لدى الآخرين، ويقف أمام ما يستجدّ له من مشكلات أو صعوبات مكتوف اليدين ويرى في حالة الحيرة والقلق التي تنتابه آنئذٍ إحدى المعضلات التي لا حل لها، وحين يدركه الحل الجاهز يكون بالنسبة له نوعاً من الهبة أو المنحة ليس أكثر، فلا يشعر بمتعة الاكتشاف أو بالنشوة التي يشعر بها من تنفتح أمامه أبواب المعرفة على مجهول تأخذ ظلماته بالتلاشي أمام ناظريه جزءاً إثر جزء.
والحلول الجاهزة تنتج دائماً متعلماً يغدو خالياً من التشويق لا جاذبية فيه فينحط طموح المتعلّم إلى حالة تتمثل باشتهاء ما لدى الآخرين فلا لذة لديه بالمعرفة التي يحصل عليها، كما أن حرصه عليها يكون، على الأغلب، قليلاً. وقديماً قيل: "ما لا تتعب به الأيدي لا تحزن عليه القلوب".
لكن من يصبح التعلّم لديه تعلّماً على التفكير، فإنّه قد يتردد في بداية الحيرة والقلق التي تنتابه، ولكنه ما يلبث أن يعمل ويكتشف الوسائل التي تساعده على إزالة الغموض من نفسه وتبديدها وبالتالي افتراض الحلول التي يراها مناسبة للحل حتى يستقر لديه – نتيجة المقارنة والبحث والتجريب – الحل الأنسب. فمهما بدت المشكلة عصية على الحل فإنّ التفكير المستقل الأصيل لا يستسلم لها منذ الوهلة الأولى. قد يكتشف المتعلّم أن ما عنده من وسائل وخبرات أقل ما يستلزمه اكتشاف الحل أو التأكد من صلاحيته، فيرجىء بحثه عن الحل، ولكن إلى حين. فيفتش في المراجع ويبحث عن المصادر ويضيف إلى خبراته ومعلوماته خبرات ومعارف جديدة. وهو باستمرار لا يلقي السلاح في بداية المعركة ولا يستسلم – وفي سعيه هذا وجهده لا يحل المشكلات أو يستجيب لها بتوافق يتمثل باتباع خطوات عشوائية، ولكن بتنظيم الخبرات السابقة ونتائج التقويم القبلي اللذين إن أحسن أستخدامهما وكانا يمتلكان كفاية لازمة للحل سيساعدان على إظهار ما يسمى في نظريات التعلّم الاستبصار أو البصيرة.
- تنشيط التعلّم:
الوصول إلى نمط من المتعلمين يعمل باستمرار على حل المشكلات التعليمية بكفاية هو من أهم أهداف التعلّم، ومن أهم الوسائل التي تثيرها هذه العملية كونها تتعلق بالأساليب والطرائق التي تمكّن من إكساب المتعلم مهارة استخدام المعلومات والخبرات في تحقيق أهداف التربية ذاتها وفي بلوغ غاياتها المنشودة.
ومن أهم ما يقلق المهتمين بالتربية ومسائل التعلّم مشكلة جمود المعلومات بحيث لا يؤدي تراكمها في أذهان المتعلمين إلى نتائج تتجلّى في فكر نشط وفي القدرة على تكوين فكر قادر على الاستفادة من المعارف والخبرات في جعل البيئة أكثر طواعية ومرونة في الإفصاح عن مكنوناتها.
وعلى أي حال، فإن تعلم المتعلّم التفكير تتجلى نتائجه في متعلم نشط يواجه المشكلات الإيجابية، ويكون هذا بوساطة التدريب على قوة الاحتمال والصبر واعتياد تحمّل المسؤولية مما يزيد من شعور المتعلّم بالثقة في نفسه وقدراته. وتصف "ألمابنغهام" هذا النوع من المتعلمين بأنّهم:
"يتقنون فهم العمليات العقلية التي يتطلبها حل المشكلات، ويعملون على استخدام طاقاتهم العقلية في التغلب على مشكلات الحياة المعقّدة دائماً. ولديهم شغف لاستخدام مواقف التحدي لتنمية قدراتهم تنمية دائمة متكاملة. هؤلاء الناس يكونون مستعدّين دوماً لمواجهة حاجات تتطلبها منهم حضارة دائمة التغير".
ومخرجات التعلّم النشط تكوّن أنماطاً من المتعلمين يكون البحث والاستكشاف سمة من سماتهم الشخصية. ويتجدد نمط سلوك كل منهم باستمرار. وهو بإتاحته الفرص للمتدرب بحل مشكلاته بنفسه بحيث تتكشف له في أثناء العمل قدراته فينميها بالدربة والمران مما يقوي ثقته بنفسه ويعوّده عدم الاعتماد على الغير، فيتعرف على مواطن القوة في شخصيته وعلى مواطن الضعف والخلل فتتعزز القوية منها، ويسعى لتلافي الضعف وترميم ما يظهر أنّه بحاجة إلى ترميم في الخبرات أو المعارف أو بحاجة إلى مزيد من التدريب على المهارات اللازمة. ويتم ذلك دون تدخل الآخرين في القرارات النهائية لأن من شأن مثل هذا التدخل والفضول أن يؤدي إلى تشويش العمليات العقلية وتعطيلها وصرفها في أقنية غير أقنيتها، ويمنع المتعلم عند مواجهة المشكلة من الوقوف على خصائصها والسبل المؤدية إلى حلها.
تبدو المشكلة عندما يكون المرء أمام هدف يسعى إلى تحقيقه، وعندما يسلك إلى حلها طريقاً من الطرق، كأنّها مغلقة يصعب اجتيازها، مما يؤدي إلى شعور بالحيرة والقلق اللذين يرافقهما توتر وضيق تزداد شدتهما كلما كان الهدف ملحاً والرغبة في الوصول إلى الحل قوية.
في مثل هذا الموقف لابدّ من توافر شروط تساعد المتعلم في حل مشكلته.
شروط حدوث التعلّم على تعلّم التفكير وحل المشكلات:
لحدوث تعلّم نشط يساعد صاحبه على تعلّم التفكير وحل المشكلات لابدّ من توافر شروط لذلك منها:
1- كون هدف التعلّم واضحاً والرغبة في بلوغه قوية. فلا تكون العقبات المعترضة شديدة إلى حد تغييب الهدف من ذهن المتعلم وزوال الشعور بالرغبة ووجود الحاجة إلى ذلك الهدف.
2- وجود الاستجابة اللازمة لتجاوز الصعوبة، ومواصلة السعي إلى الهدف، فالموقف الخارجي يفترض وجود هدف، حاجة واستجابة ملائمة. لكن توافر هذه الأركان معاً وإن كان ضرورياً لكنها ليست بالشرط الكافي الذي يحقق الأهداف المتوخاة. فلابدّ من شرط آخر ذاتي.
3- توافر شروط ذاتية عند المتعلم منها التوافق العقلي والاجتماعي والنفسي. فالقلق الذي يتجاوز عتبة معينة، وكذلك التوتر الزائد عن اللزوم يشكلان عقبة جديدة يزيدان المشكلة تعقيداً ويجعلان تجاوزها أمراً صعباً. كما أنّ للحالة العاطفية أثرها المثبط أو المشجع على حل المشكلة، فإذا زادت عن حدها تصبح مثبطة للعزم والتصميم. كما أنّ الخجل الشديد، مثلاً، قد يعطل الجانب العقلي ويؤدي إلى عدم الاستفادة من طاقاته فتغدو المعارف والمهارات العقلية عاجزة عن تلبية طلب المتعلّم فيتراجع تفكيره وتضعف فاعلية التعلّم لديه.
- خاتمة..
تغيرت الظروف والأزمنة التي كان فيها هدف التربية منصباً عن تعليم المتعلمين القراءة وإتقانها وحفظ قواعد في علوم الرياضيات والطبيعة واللغة، فأصبحت هذه النتاجات القديمة وسائل تعليمية وكفت عن كونها أهدافاً ويمكننا التحدث في هذا الاتجاه عن الأفكار والمهارات والاتجاهات التي انتقلت من خانة الأهداف إلى خانة الوسائل.
وبالنسبة لعملية التفكير التي كنا بصددها، فقد كان الاهتمام بها يتمثل بضخ المعلومات إلى ذهن المتعلم وحشوه بها. إلا أنّ هذا الأسلوب غدا الآن متخلفاً لا يفي بالغرض في عصر الإبداع والتغير السريع. وصار مطلوباً أن ندرب الكائن البشري تدريباً مستمراً على أن يتعلم عملية تعلّم التفكير وتنشيطه وفق استراتيجية تتمثل بعبارة:
"تعلّم المتعلم تعلّم التفكير". بحيث يصبح ذلك اتجاهاً من اتجاهاته في عصر لم يعد الاعتماد فيه على الذاكرة البشرية ناجعاً. فثمة تقنيات ووسائل متطورة تقدوم بخزن المعلومات وترتيبها وتصنيفها وتحليليها وبرمجتها بحيث تغدو جاهزة تحت الطلب لمن يحتاجها. وانتقلت هذه التقنيات من طور مزاحمة العقل البشري في الاستيعاب إلى مرحلة التفوق عليه نوعاً وكماً بدقة متناهية وباختصار شديد للوقت والجهد.
وثمّة خطر داهم يتجلى في نتاجات هذا التفوق التكنولوجي يتمثل في الاستغناء عن بعض القدرات العقلية وعدم إيلائها الاهتمام الذي كان في السابق مع ما يمثله ذلك من تكاسل وخمول بعض الطاقات العقلية عند الإنسان. وهذا الأمر يدفع إلى تلبية حاجة ماسة تولدت عن ذلك هي الحاجة إلى تدريب الفكير ينقذه من العطالة والسلوك ويحثه على طرق أبواب الكشف والحصول على المعارف وتوسيع آفاقها وتجديد وظائفها، فلا ينجر المرء وراء بريق المعارف والأفكار الجاهزة كما أنجرّ إلى طلب المأكولات المعلبة والجاهزة.
المصدر: مجلة المعرفة
* باحث من سورية
ارسال التعليق