• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تعليم الطفل الانسجام

تعليم الطفل الانسجام

من أهم الدروس التي يفترض أن يتعلمها كلّ إنسان هو درس الانسجام. ويتعلم معظم الأطفال الصغار هذا الدرس، من خلال وجودهم مع الأشقاء والشقيقات، ذلك أنّ الحياة العائلية توفّر فهم الأرضية اللازمة لتطوير قيم من مثل التعاون والصدق والحنان والتسامح.

يحتاج الطفل الصغير إلى وقت حتى يتعلم المهارات الاجتماعية. إلا أن وجوده بين إخوته وأخواته يوفّر له فرصة عظيمة ليتعلم مهارات المشاركة وحل النزاعات. كما أن وجوده وسط عائلة متفهّمة ومُحبّة، يساعده كثيراً عن تعلُّم قيم مثل التعاون مع الآخرين، وتقديم الدعم لهم، والانسجام معهم.

من الطبيعي أن يختلف الأشقاء والشقيقات في ما بينهم، وأن يتنازعوا، ويتقاتلوا ويتدافعوا وينتزع أحدهم ما في يد شقيقه أو شقيقته بالقوّة. أحياناً يمكن أن تسبب التناقضات الطبيعية، بين أشخاص يتقاسمون المساحة نفسها باستمرار، وقوعهم في دوامة خطيرة يصعب السيطرة عليها. وهذا ما يحدث تماماً داخل أغلبية العائلة، حيث يشعر الآباء بالإحباط نتيجة تصرفات أطفالهم، التي يعتبرونها غير عقلانية، وبالمزيد من الإحباط نتيجة عدم تجاوب الأطفال مع مطالبهم وعدم التزامهم بالقوانين التي يضعونها، وهذا يعني عدم قدرة الأهل على ضبط أطفالهم. وينتهي الأمر بنزاع الآباء في ما بينهم، أثناء محاولتهم التوصل إلى نوع من العقوبات الإبداعية، التي من شانها أن تؤدي إلى تغيير سلوك الأطفال وخلق جو عائلي يسوده المحبة والوئام. في هذه الحالة، قد يكون من الأسْلَم اتخاذ إجراءات وقائية بدلاً من الإجراءات العقابية، عبر الأخذ بعين الاعتبار تعليم الأطفال مهارة الانسجام، قبل أن تأخُذ النزعات والخلافات طريقها إلى الأشقاء والشقيقات.

 

تفكير وصبر:

الآباء هم المعلمون الأوائل والأهم لأطفالهم. إنّ تعليم الطفل الانسجام يتطلب الكثير من التفكير والصبر. ولكن، إذا تم وضع أساس جيد للتعليم في وقت مبكر، يصبح الأطفال أكثر قدرة على حل خلافاتهم عندما يكبرون في السن. فإذا قامت الأُم بهذه المهمة على وجه جيد في السنوات الأولى من عمر الطفل، لا يعود هناك من داعٍ لبذل الكثير من الجهد معه بعدما يكبر وينضج. الفكرة هي أن تُنفق الأُم المزيد من الوقت في تدريب طفلها الصغير، بدلاً من أن تلعب دور الحكم. فالطفل في حاجة إلى أن يتعلم المهارات الأساسية الضرورية، مثل قول: "من فضلك" و"شكراً"، المشاركة، طلب المساعدة، التحاور مع الآخرين، السيطرة على مشاعره السلبية، تهدئة نفسه بنفسه، إضافةً إلى مهارات عديدة أخرى.

على الأُم أن تأخذ دائماً سن طفلها ودرجة تطوره بعين الاعتبار، عند البدء في تعليمه المهارات. فالطفل قبل سن الثالثة يحب مراقبة أشقائه وشقيقاته الأكبر سنّاً. بينما يحب الأطفال بعد هذا العمر اللعب إلى جانب الآخرين، وقد يحاولون تقليد مَن هم أكبر سنّاً. إلا أنهم لا يكونون مستعدين للعب معاً  كفريق واحد إلا بعد سن الثالثة. في سن الرابعة والخامسة، يتعلم الأطفال دروساً أساسية في المداورة والمشاركة، ويتوقون بشدة إلى اللعب مع أطفال آخرين. ومع أنّ الطفل يتعلم معظم المهارات في وقت قصير نسبياً، إلا أن تعلُّم الانسجام يحتاج إلى أسابيع وأشهر عديدة.

على الأُم أن تُفسح المجال أمام أطفالها ليلعبوا معاً، وأن تكتفي بإلقاء نظرة سريعة عليهم بين حين وآخر، أثناء انشغالها بعمل آخر، على أن تكون مستعدة للتدخل عند الضرورة. لأن لعب الأطفال معاً يساعد على خلق انسجام في ما بينهم.

 

أساليب التعليم:

كيف تُعلّمين طفلك الانسجام؟ هناك أساليب عديدة يمكن أن تساعد على تعليم الطفل الانسجام، منها على سبيل المثال:

· تقديم المثال الجيِّد في حل النزاعات: من غير الضروري أن تكون الأُم بمثابة طبيبة نفسية أو مُوجِّهة تربوية، كي تعرف كيف تتعامل مع سلوك طفلها غير اللائق والمزعج. باعتبارها ناضجة، تستطيع الأُم أن تواجه الأمر بصبر وبضبط النفس بدلاً من الغضب والصراخ. كما تستطيع بحكم العلاقة الأسرية، أن تحدّثه عن أهمية البحث في هدوء، في الأسباب التي تدفعه إلى الإتيان بتصرف غير لائق.

عندما يلمس الطفل أن أمه تسعى إلى معرفة الأسباب، وتضع قائمة بالحلول المحتملة، وتعطي الخلافات فرصة كي تحل نفسها بنفسها، من دون أن تبدو غاضبة، بالتأكيد سيحاول الاقتداء بها وحل خلافاته بالطريقة نفسها، قبل أن يقدم على أي تصرف سيئ. في المقابل، يمكن أن يتبع الطفل الذي يرى أمه تصرخ وتغضب دائماً، وتستخدم ألفاظاً بذيئة ومُسيئة، الأسلوب نفسه الذي تستخدمه أمه في حل نزاعاته. إن أفضل طريقة لتعليم الطفل الانسجام، هي أن تأخذ الأم تصرفاتها مع أفراد أسرتها بعين الاعتبار. لأنّ الأُم هي المثال الذي يقتدي به الطفل دائماً.

· الاستعانة ببرامج التلفزيون لتعليم حل النزاعات العائلية، يمضي الطفل وقتاً طويلاً في مشاهدة البرامج والأفلام التلفزيونية. وهذه المُشاهَدة تساعده على التوصل إلى معرفة الأسباب وراء الخلافات العائلية في الحياة الحقيقية، عبر الطريقة التي تحل بها الشخصيات التلفزيونية مشاكلها، أو من خلال مشاهدته للانسجام بين الأطفال أثناء اللعب معاً. بالتأكيد، إنّ هذا لا يعني أن على الأُم اعتماد البرامج التلفزيونية كمصدر "مساعدة على التعليم"، بل عليها اختيار البرامج بدقة، مثل تلك التي تطرح أفكاراً تساعد الطفل على تعلُّم دروس في العيش بانسجام مع بقيّة أفراد العائلة، تحت سقف واحد من دون منازَعات. لأنّه، مثلما أن هناك برامج تعكس الواقع العائلي الذي يعيشه الطفل يومياً في الحياة، تتناول موضوعات مهمة مثل المشاركة، الاحترام، التعاون، التعاطف.. إلخ، هناك في المقابل، برامج تعطي صورة بشعة عن واقع الحياة، تُعلّم العنف والممارسات السيئة. ومع ذلك، توفّر البرامج والأفلام التلفزيونية، فرصة للأطفال والأهل لفتح باب النقاش حول مشاكل الإخوة والأخوات، من دون أن يبدو الأمر وكأنهم يناقشون حالة أطفال العائلة.

· امتداح التصرف الجيِّد: في الأغلب تحاول الأُم لجم تصرفات الطفل غير المناسبة بسلسلة من العقوبات. ومع أنّ العقوبات ضرورية أحياناً، إلا أن هناك أساليب أخرى غير العقوبات يمكن أن تعطي نتائج أفضل. منها مثلاً، أسلوب مدح تصرفات الطفل الإيجابية. بدلاً من أن تنتظر الأُم وقوع المشاكل بين أطفالها، عليها التدخل في أوقات انسجامهم في اللعب معاً ومدح تصرفاتهم. إنّ إعراب الأُم عن سعادتها لانسجام أطفالها في اللعب، واعتماد أسلوب المُداورة وتبادل الألعاب، أو لقدرتهم على حل النزاعات البسيطة، من دون تدخل من جانبها، يساعد الأطفال على النظر إلى الانسجام بإيجابية، وعلى تعلم أنّ التصرف الإيجابي يُكسبهم كل ما يتمنونه، محبّة واحترام واهتمام الأُم. على الأُم أن تعود إلى الأيام الماضية وتمتدح طفلها على تصرفاته الجيدة. مثلاً، أن تُذكره عندما استمتع باللعب مع شقيقه أو شقيقته قبل أيام مضت، من دون أن يُثير أي مشاكل معه أو معها، وأن تؤكد له أنها تتوقع منه أن يتصرف دائماً بالطريقة نفسها. مثل هذا المديح، يُشعر الطفل بأنّ أمه واعية لكل تصرفاته، ولا تنسى إطلاقاً تصرفه الجيدة، فيدفعه هذا الشعور إلى الحرص على الانسجام والتعاون مع أشقائه وشقيقاته.

· اختيار العقوبات التي تهدف إلى تحسين السلوك: لابدّ من معاقبة الطفل عندما يرتكب خطأ أو يأتي تصرفاً غير مقبول. ولكن، أحياناً تمضي بعض الأُمّهات وقتاً طويلاً في محاولة معالجة خطأ ارتكبه الطفل، أثناء عمل ما وشعر هو نفسه بالندم لارتكابه، فيُضيّعن عليه فرصة إنجاز ما كان قد بدأ به، وكان راغباً في إنجازه. بدلاً من ذلك، تستطيع الأُم تخصيص القليل من الوقت في ابتكار نوع من العقوبات، يهدف فعلاً إلى تحسين سلوك طفلها وإلى عدم تكرار السلوك السيئ. قد يتطلب هذا النوع من العقوبات القليل من الإبداع، وقد يبدو مخالفاً للعقوبات التي اعتادت استخدامها في معالجة الأمور سابقاً، ومع ذلك يمكن أن يساعدها كثيراً أثناء محاولتها اكتشاف وسيلة لتعليم أطفالها الانسجام. على سبيل المثال، إذا حصل جدال بين الأشقاء أو الشقيقات حول استخدام التلفزيون، على الأُم أن تنتظر قليلاً حتى يمر بعض الوقت وتهدأ النفوس، ثمّ تتباحث مع كلّ الأطراف حول كيفية التعامل مع المشكلة مع المرات المقبلة. عليها حملهم على الاتفاق على وضع جدول في أوقات حضور البرامج معاً وأوقات حضور كلّ واحد منهم برنامجه المفضل وحده، ثمّ تصرُّ على التزام الجميع بالجدول الذي وافقوا عليه. حقاً، إنّ معاقبة الأطفال بإغلاق التلفزيون والطلب منهم الذهاب إلى غرفهم، ينهي النزاع ويحل المشكل حالاً، ويُشعر الأم بأنها الوحيدة التي تملك السلطة في المنزل، لكن تصرفها لم يكن في الواقع قد عمل على حل النزاع اليومي حول مشاهدة البرامج التلفزيونية. بدلاً من ذلك، عليها أن تفسح المجال أمام أطفالها ليبتدعوا وسيلة في ما بينهم، تساعدهم على حل نزاعاتهم كلما وقع مشكل.

في الواقع، لا يوجد حل واحد يمكن أن يضع حدّاً نهائياً لخلافات الإخوة. ففي نهاية الأمر، الأطفال هم عبارة عن مخلوقات بشرية. إذ يمكن أن يسود الانسجام في ما بينهم أحياناً، والعكس صحيح أيضاً في أحيان أخرى. لكن بذل الجهد من طرف الأُم لتعليم أطفالها الانسجام، يمكن أن يساعد على التقليل من النزاعات التي يختبرها كل بيت.

· وضع قوانين مسبقاً: يجب أن يعرف الطفل أنّه من غير المسموح به أبداً استعمال العنف في حل نزاعاته مع أشقائه وشقيقاته. وإذا حصل واعتدى على أي منهم، على الأُم أن تنحني حتى تتساوى مع مستوى طفلها، ثمّ تنظر في عينيه مباشرة وتقول له: "إنّ من غير المسموح لك أن تضرب شقيقك. إيذاء الغير مرفوض تماماً. لا أريد أن أراك، أو أسمع عنك أنك ضربت أحداً أو آذيته". ثمّ عليها تعليمه تحسين صورته بالاعتذار للطرف الآخر.

إنّ النظر في عيني الطفل مباشرةً وإبلاغه القانون بجدّية تامة، يعمل على إقناع الطفل أنّ الأُم تعني ما تقول. يجب أن تكون القوانين بسيطة، وواضحة في الوقت نفسه، وأن تُذكّر الأُم أطفالها بها باستمرار، لأن الطفل يتعلم من التكرار.

ارسال التعليق

Top