• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

باسـمك نحـيا

د. عمرو خالد

باسـمك نحـيا
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلَّم. سنبدأ معاً بإذن الله في موضوع جديد تحت عنوان "باسمك نَحْيَا". في هذا المقال، لن نتحدث فيها عن اسم مُعيّن، بل عن كل الأسماء، وسيكون مكوناً من المحاور التالية، هي: ·       المحور الأول: هدف موضوع أسماء الله الحسنى. ·       المحور الثاني: كيف يدلل الله على أسمائه الحسنى لتعرفه بها؟ ·       المحور الثالث: لماذا سمَّينا السلسلة بـ"باسمك نحيا"؟   - المحور الأوّل وهو الهدف من موضوع أسماء الله الحسنى: ببساطة شديدة، هدف أسماء الله الحسنى كلمة واحدة فقط، وهي معرفة الله. فلو عرفته لأحببته وأطعته وتمنيت رضاه، واشتقت إلى جنته، ولأدمعت عيناك شوقاً إليه. لو عرفته لذبت شوقاً إليه، لو عرفته لما أغضبته أبداً. لن تشد على نفسك بالعبادة والذكر والقرآن والصدقات والخشوع إلا لو عرفته، ولن تمتنع عن معصيته إلا لو عرفته. "إذا عرفت الآمر سَهُلَت الأوامر". أحياناً تعصاه وأنت غير مدرك من عصيت وأغضبت، وتعتقد أن ذنبك صغير. انظر إلى مَن عصيت، ولا تنظر إلى حجم الذنب. وكلما عرفته استسلمت، وكلما عرفته رضيت بقضائه، وربما يكون مصاب شديد حل بك، لكنك تتذكره فتهدأ وتستسلم. وإذا عرفته رأيت حكمة ما بعدها حكمة أو علماً ولا ينتهي إليه أي علم، ووجدت ودّاً ولطفاً ورحمة وشفقة. ولديّ كلمة من وجهة نظري، ربما تكون خاطئة، وهي: أنّ الدين يتلخّص في ثلاث كلمات: معرفة تؤدي إلى طاعة تؤدي إلى سعادة. ولذلك جاء في سورة طه: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) (طه/ 1-8). فكل الآيات تعريف بالله، فهذا الدين ليس للشقاء بل للسعادة، والسورة تقول إنك لن تشقى إذا مشيت مع الأسماء الحسنى. أمّا بقيّة سورة طه، فتحكي أنّ السعادة مع موسى والشقاء مع فرعون، وموسى عرف فأطاع فسعد، وفرعون لم يعرف فعصّى فشقي. هل فكّر أحد في كلمة حُسْنى؟ كلّها جَمال وكمال وجَلال، ترفعك إلى أعلى. وهدف هذا الموضوع هو أن نعرف الله من خلال أسمائه الحسنى. وكلما عرفته ازددت حُبّاً واستسلاماً وبَذْلاً. ولمن يقولون: نحنُ نعرف الله، أقول لهم: لا. أنا لا أتكلم عن المعرفة السطحية، أنا أتكلّم عن معرفة مُتغلغلة في خلايا جسمك، معرفة إذا مُنِعَت عنك تموت. معرفة تجعلك تقول: هذه المرأة التي ماتت تُذكّرني باسم الله كذا. والموقف الذي حدث لي من مديري يُذكّرني باسم الله كذا. وابنتي الصغيرة التي ابتسمت في وجهي تُذكرني باسم كذا. لقد خُلق الماء لهدفين: هدف صغير وهدف كبير. الهدف كي ترتوي وتعيش. ولو شربت الماء وارتويت وقفت عند الهدف الصغير. ولكن لو شربت الماء وانطلق عقلك إلى الرزاق وقلت لنفسك: "سبحان مَن عَلّق رزقي في سحابة مارة في السماء"، تكون بهذا قد انتقلت إلى الهدف الكبير من خلق الماء، وهو معرفة الله باسمه "الرزاق". أتعرفون الحديث عندما جاء جبريل إلى النبي (ص)، وكل الصحابة جالسون؟ قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال النبي: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتُقيم الصلاة وتُؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت". قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقَدَر خيره وشَرّه" قال: صدقت، قال: فحدِّثني عن الإحسان، قال: "أن تَعبُد الله كأنك تراهُ، فإنّ لم تكن تراه فإنّه يراك". هل انتبهت إلى ترتيب أسئلة سيّدنا جبريل؟ إسلام.. إيمان.. إحسان. ولماذا سأل عن الإحسان؟ لأن تطبيقك للإسلام والإيمان من دون أن تستشعر معرفة الله، يجعل الإيمان والإسلام أجْوَف بلا إحساس. هذه هي المعرفة التي جئتُ أتكلم عنها. أتعرفون الحديث الذي نحفظه جميعاً: "إنّ لله تسعةً وتسعين أسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة". والكثير من الناس يتوهّمون أنّ الإحصاء هو العدّ والحفظ وتسميع الأسماء. ولكن، حتى علميّاً، فالإحصاء غير العَد، وكذلك قرآنياً، حيث تقول الآية: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (مريم/ 94).   - المحور الثاني: كيف يُدلل الله على أسمائه الحسنى لتعرفه بها؟ لقد جعل الله وسيلتين لنتعرف إلى الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى وهما: كتاب يُقرأ، وكتاب يُنظر، أي القرآن، والنظر إلى الكون. مدار القرآن هو توحيد الله تبارك وتعالى، وأسماء الله تبارك وتعالى. لنرَ ذلك: 1- أوّل آية نزلت من القرآن تقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1). وانظر إلى كل سورة في القرآن، فإنّها تبدأ بـ"بسم الله الرحمن الرحيم". وكأنّ الله يُريد أن يقول لنا: ابدأوا كل عمل بها. 2- انظُر إلى سورة الفاتحة، أعظم سورة في القرآن، فكلّها أسماء الحسنى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة/ 1-4). ولابدّ أن تقرأها في كل صلاة. 3- كذلك أعظم آية في القرآن، "آية الكرسي"، وهي تحتوي على ستة أسماء في آية واحدة: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..) (البقرة/ 255). ثمّ يشرح لك دلائل الحي القيوم: (.. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ...)، إلى آخر الآية. إنّ آية الكرسي أعظمَ آية في القرآن، لأنّها تُعرّفك إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى وأسمائه الحسنى. ونُكمل إلى آخر الآية: (.. وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا...)، وخِتامها: (.. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة/ 255). 4- وكذلك السورة التي تَعْدلُ ثُلث القرآن: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص/ 1). انظُر ماذا تقول: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص/ 1-2). منذ كم سنة وأنت تقرؤها وتُصلّي بها سريعاً؟ هل في يوم من الأيام احسست بالصَّمَد؟ أتعرف معنى اسم الله الصَّمَد؟ الصمد هو الذي يُلجَأ إليه عند الشدائد. لِمَ؟ لأنّ أحدا لا يُوجد غيره. ولذلك يقول الدعاء: يا صَمَد من لا صَمَد لَهُ.. لا سَنَد مَن لا سَنَد له". إنّ النبي (ص) يقول عن هذه السورة، إنها تُساوي ثلث القرآن، لأنك عرفت بها أن لا إله إلا الله، وعرفت أن صَمَد. وبالتالي لن تلجأ إلى غيره، وبالتالي لن تخاف من غيره، وبالتالي لن تّذل نفسك لأحد، وبالتالي هو الرزاق وهو المعطي وهو الذي يُخرجك من المصائب، لأنّه الصَّمَد. ألست حزيناً على عمرك الذي مضى ولم تعرف الصمد؟ 5- ومن إعجاز القرآن أن يُفصّل لكَ الأمور ويشرح عدداً من الآيات، ثمّ يختمها بأسماء الله الحسنى. ومن الأمثلة على ما قلنا هذه الآية الطويلة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا..) (البقرة/ 260). إنها قصة، وانظُر إلى ختام الآية: (.. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). اقرأوا القرآن بهذه الطريقة، لتعرفوا الله وأسماءه الحُسنى، ولن تجد صفحة واحدة ليس فيها ختام الآيات بأسماء الله الحسنى، كي يخبر أنّ الذي فات هو تفصيل، فسبحان مَن بَسَط بدائع صُنْعه ثم طَوَاها في أسمائه الحسنى، وسبحان الذي يُفصِّل ويُجَمِّل، وسبحان الذي يعرض عليك الكون (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يس/ 38).. ثم تأتي بضع آيات يتكلم فيها عن الكون، وقدرته في الكون ثمّ تُختم بـ: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق/ 12). هل من الممكن أن نقرأ القرآن على هذه الصورة هذه السنة، ونحنُ نبحث عن أسماء الله الحسنى؟ ومن دون أن أقصد فتحتُ الآية التي تقول: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور/ 45). أرأيت كيف يُعرفك الله على أسمائه الحسنى في كتابه المقروء القرآن، وكيف يُحبّبك في أسمائه ويطلب منك ويأمرك أن تدعوه بها؟ (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا...) (الأعراف/ 180). تَوسَّل إلى الله بأسمائه الحسنى أثناء الدُّعاء ليُستجاب لك. سوف نفيدك فائدة قبل أن يُستجاب دُعاؤك هي أن تعرف أسماء الله الحسنى. فلتدعُ بالأسماء التي لها علاقة بموضوعك: ألديك مشكلة مادية؟ ادعُ باسم.. "الرزّاق".. الفتّاح".. "الوهّاب". الأُمّة مقهورة؟ فلتَدعُ بـ"العزيز"، "الجبّار"، والقوي". تُريد أن تُثبَّت على الطاعة؟ فلتدع بـ"الهادي"، "الحافظ". تُريد أن يفتح الله عليك بالعبادة؟ فلتدعُ بـ"الفتّاح". أرأيك كيف يُعلمك القرآن التعامُل مع أسماء الله الحسنى؟ ولو كنت تسمع الشمس والجبال والقمر والبحار، لسمعتها تقول: لا إله إلا الله (.. وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...) (الإسراء/ 44). لكن بإحساسك تستطيع الشعور بذلك. الألوان والطيور تُنادي على "البديع"، أصابع المذنبين تُشير إلى "الغفّار"، الميّت كل يوم يُشير إلى "الحي" الذي لا يموت، الغريق يُنادي على "المغيث"، الكون كلّه يُسَبِّح.   - لما سَمَينا الموضوع بهذا الاسم "باسمكَ نَحْيَا"؟ لأنّ الكثيرين يتعاملون مع أسماء الله الحسنى، من أجل التبرُّك بها في المناسبات فقط، والكثيرون يحفظونها، لكنهم غير مُتخيّلين أنّ كل دقيقة في حياتنا لها علاقة بأسماء الله الحسنى، نُريد أن نقول لهؤلاء: إنّ حياتنا كلها دائرة مع أسماء الله الحسنى، والكون كله يدور معها. أتعلمون ما هي أكثر سورة جاءت فيها أسماء الله الحسنى مُتوالية؟ إنها سورة الحَشر: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/ 24). وسورة "الحشر" تتكلّم في الأصل عن معركة بين المسلمين واليهود، انتصر فيها المسلمون، لكن لماذا بهذه الكثرة؟ لكي نتعلم شيئاً مهمّاً جدّاً وهو: أنّ أسماء الله الحسنى عملية لانتصار الأُمّة، وهي ليست بعيدة عن حياتكم.

ارسال التعليق

Top