اليقين ـ لغةً ـ هو العلم وإزالة الشّكّ، وتحقيق الأمر، وفي كلام ربّ العالمين: (أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النّور/ 25)، فأضاف ـ عزّوجلّ ـ الحقّ إلى اليقين، وليس هو من إضافة الشّيء إلى نفسه، لأنّ الحقّ غير اليقين، إنّما هو خالصه وأصحّه، فجرى مجرى إضافة الخاصّ إلى العام. وقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر/ 99)، أي حتى يأتيك الموت، وفيه الأمر بالإقامة على العبادة.
اليقين من المفاهيم المعرفيّة القرآنيّة، ولا يتمّ بلوغه إلّا بالتعلم والمعرفة الأصلية والنافعة، والتي تجعل من المرء صالحاً على مستوى القاعدة النفسيّة والرّوحيّة والسلوكيّة للوصول إلى اليقين الذي يثبت الإيمان بالله تعالى، ويعطي هذا الإيمان بعداً عميقاً ومتجذّراً في الوجدان العام. فالمعرفة الأصليّة والصّادقة والهادفة هي بوّابة اليقين الطبيعيّة وفق منهج القرآن الكريم، وهي الخطوة الأولى في إيمان المسلم، ليكون إيماناً منفتحاً يمتلك ركائز قويّة وغنيّة على المستوى الفردي والجماعي.
وما ينبغي علينا أن نعلمه كمؤمنين مخلصين، أن نؤسّس إيماننا على اليقين بالمعنى المعرفي الأصيل، وبالمعنى العقلي المنفتح والمسؤول، فبذلك يتحوّل اليقين من مفهوم مجرّد، إلى طاقة تغييريّة إصلاحيّة للذّات والمجتمع، ويدفع النَّاس إلى تنظيم علاقاتهم مع أنفسهم وخالقهم، ويصبح الإيمان إذ ذاك مفهوماً حيويّاً حركيّاً ينعكس سلوكاً ووعياً في الواقع بما يتّصل بالحاضر والمستقبل.
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة/ 95)، الّذي لا مجال فيه للشّكّ، لأنّه يمثّل عمق الحقّ الّذي يشرق في داخل النّفس، لتعيش اليقين الّذي لا تهتزّ فيه القناعات، ولا تزحف إليه الاحتمالات.
وفي موضع آخر (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة/ 4): الإيقان هو الاعتقاد، والإيمان بالآخرة هو الصّفة الخامسة من صفات المتّقين، وهو من أقوى الأسس العقيديّة لبناء الشخصيّة الإسلاميّة التقيّة. إنّ قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر، هي في تعاظم الشعور بالمسؤوليّة لدى الإنسان، لأنّها تجعل للإنسان هدفاً، وتمدّ الحياة إلى مجال أبعد من الحياة الحسيّة الّتي نمارسها، وبهذا يستطيع الإنسان الارتباط بالمثل العليا ارتباطاً أعمق على أساس إيمانه بالله واليوم الآخر، فإذا اجتمعت هذه الصِّفات في نفس الإنسان وفي عمله، أمكن له أن يطمئنّ إلى أنّه يسير على هدى من ربّه فيما يفكّر ويعمل، وأنّه يتحرّك في اتجاه الفلاح والنّجاح في الدّنيا والآخرة.
ويعلّق أيضاً على هذه الآية المباركة: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر/ 99): إنّها العبادة لله الّتي تجعل كلّ الحياة له، في كلّ رفّة جفن، ونبضة قلب، ونفحة فكر، ووثبة شعور، وفي كلّ تمتمة شفة، وفي كلّ نفحة روح، فلا يغيب الله عن وجدان المؤمن، ولا يبتعد عن حركته، فهو الحاضر أبداً في الكيان، حضوره في الكون كلّه، وفي الحياة كلّها، وتلك هي العبادة الّتي تنطق فيها إنسانيّة الإنسان، لتعيش في رحاب الله، وترتفع إلى الملأ الأعلى، حيث لا وجود إلّا الله، حيث السّعادة المطلقة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وهكذا يريد الله للإنسان النبيّ، وللإنسان الدّاعية في خطّ الرّسالة، وللإنسان الذي يعيش في أجواء النبوّة والدّعوة، أن يرتفع في آفاق العبادة في حياته، في نداء حميم واعد بروحانيّة تعمر الفكر والقلب والشّعور.
إنّ اليقين هو مخّ العبادة لله والإيمان بتوحيده، والإخلاص لربوبيّته ما يعطي للوجود قيمة ومعنى يرتفع فوق مستوى المظاهر والمادّيات والأوهام، وهذا ما يفرض على المجتمع الإيماني الرّساليّ أن يكون بمستوى العمل والتأهّل لبلوغ عالم اليقين، بما فيه من غنى روحيّ ومعرفيّ يعطي للشخصيّة الإيمانيّة هويّتها، ويحقّق توازنها وكيانها في عالم الوجود الدّنيويّ والأخرويّ.
بينما للأسف اليوم، نجد حال الواقع الإسلاميّ بوجه عام يستغرق في متاهات التّفاصيل الهامشيّة الدّنيويّة المبنيّة على تقديم المصالح والحسابات الشخصيّة، فيما يغيب العمل الجادّ والحقيقيّ لتأسيس الإيمان والقناعات على المستوى المعرفيّ والسّلوكيّ الأصيل، فيظلّ اليقين مفهوماً يحتاج إلى موقنين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق