يفرض الحديث عن الوحدة الإسلامية نفسه هذه الأيام إزاء ما يشهده عالمنا ومنطقتنا من تطورات؛ فضعف واقعنا، وتردّي أحوالنا يستوجب البحث عن أسباب القوة وعوامل النهوض، وفي مقدمتها تحقيق وحدتنا، ورصُّ صفوفنا، وضمّ جهودنا. ولا شكّ أنّ القرآن الكريم هو أوّل من طرح وأكّد فكرة "وحدة الأُمّة الإسلامية" عبّر نصوص قرآنية عديدة.
إنّ السمة الأبرز لهذه الأُمّة الإسلامية هي أنّها أمُة التوحيد والوحدة، ومن الواضح عبر مسيرة التاريخ أنّ هذه الأُمّة لا تصل إلى الوحدة الحقيقية إلا من خلال تمسّكها بعقيدة التوحيد الحقّ، وبقدر تفريطها في عقيدتها فأنّها تتعرض إلى التمزق والتشتت الداخلي، ويربط القرآن الكريم بين التوحيد والوحدة في نصوص واضحة؛ منها قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92)، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون/ 52).
قال الآلوسي: (إنّ هذه أمّتكم) خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والأُمّة الإسلامية، وذلك من باب (هذا فراق بيني وبينك) وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن وأشير إليه، وفيه أنّه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف.
ويسعى القرآن الكريم إلى تذكير المسلمين بحقيقة أنّهم أُمّة واحدة.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران/ 103). وينهى أشد النهي عن التفرق والاختلاف:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 105). قال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق من الأُمم في الدِّين، فأهلكهم الإفتراق.
وقال تعالى ناعياً أهل الأهواء تفرقهم بكفرهم، محذراً من سلوك سبيلهم: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام/ 159).
وقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم/ 31-32).
فالتفريق بين المؤمنين سبيل الشيطان: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة/ 91)، وهو سبيل أعداء الأُمة المتربصين بها من الداخل والخارج، فمن الداخل يجتهد المنافقون في إثارة العداء والفرقة بين المؤمنين حتى لو كان ذلك من خلال لافتات برّاقة خدّاعة تشقُّ الصفوف، وتفسد الاجتماع. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة/ 107)، وإثارة الفرقة هو سبيل الفراعنة المتجبّرين، الذين يخشون وحدة أهل الحقّ وجند الإيمان، ويرون عزّهم في إذلال المؤمنين وفرقتهم: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 4)، أما الكافرون فمنذ القدم كان شعارهم مع المؤمنين "فرّق تسد" وما استطاعوا أن ينالوا من المؤمنين إلا بتفرّقهم وضرب بعضهم ببعض.
- الوحدة الإسلامية والأخوة:
رسخّ الإسلام هذه الأخوة من خلال تشريعاته وأخلاقه ومعاملاته، فجاءت أركان الإسلام الخمسة جميعاً تكرس معنى الوحدة الإسلامية والأخوّة الإيمانية.. والمسلمون جميعاً على امتداد الأرض يخضعون لتشريع إلهي واحد، يجمع بينهم: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65)، ويفترض الإسلام انقياد المسلمين جميعاً لمنهج سياسي واحد، وفرض عليهم طاعة أولي الأمر منهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59). ويأمر أتباعه أن ينهضوا جميعاً لصدّ أعدائهم، ويعدُّ الجهاد فرض عين، إذا اعتُدي على أي أرض مسلمة: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 36). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 193).
ونصرة المستضعفين من المؤمنين فريضة ما أمكن ذلك: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء/ 75).
وذلك استشعاراً بمبدأ الأخوّة الإسلامية التي تسعى إلى إعزاز المسلمين جميعاً، ورفع الضيم عنهم: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون/ 8). جاء في تفسير زاد المسير: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) وهي: النعمة والقوة: (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بإعزام الله ونصره، (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.
ووضع الإسلام قواعد أخلاقية إيمانية لدعم الأخوّة الإيمانية، وحميتها من كلّ ما يعكّر صفوها، ويُعرقل سبيل عملها، فأمر بالتعاون على البر والتقوى، وترك الإثم والعدوان، وقال (ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وأمر الإسلام بالإصلاح بين المؤمنين حين يقع بينهم العداوة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10).
ومن أجل الأخوّة الإسلامية نهى الإسلام عن كلّ ما يسيء إليها، فإن ظهر بين المسلمين ظالم وباغٍ كانت الأُمّة كلّها مطالبة بردّه والتصدي له من خلال تشريع الإسلام الخالد، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104)، وقيام الأُمّة المسلمة بتلك الفريضة هو سرُّ خيريتها وأفضليتها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 110).
- الوحدة والأخوة الإسلامية شرطاً النصر:
إنّ تحقيق الأخوّة بين المسلمين شرط لتحقيق النصر على أعدائهم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4)، فإن فقد معسكر الإيمان هذه الخصيصة، أو تراجعت وضعفت، حلت بهم الهزيمة: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 152).
علينا أن ندرك حقيقة الوحدة الإسلامية ولن ننسى هذه الدعوة القرآنية من أجل حطام زائل، وعلينا أن نعرف أنّ الوحدة الإسلامية في ظل القرآن أحسن وسيلة لنجاة الأُمّة الإسلامية وخلاصها.
المصدر: كتاب رسالة التقريب/ العدد 44
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق