إنّ القرآن إنما جاء ليتدبره النّاس، فيصبحوا عبيداً لله بالطوع والاختيار، كما خلقهم عبيداً له بالفطرة والإجبار.
ومن أجل هذا، كان لابدّ أن ينهج بالناس نهجاً تربوياً في كلّ ما يأتيهم به من أخبار وآيات وعظات وأحكام. ومن أجل هذا كان هذا الكتاب أعظم مصدر للتربية إلى جانب أنّه أعظم كتاب يقدم للإنسان حقائق الكون كلّه. فما هو منهجه التربوي، وما هو أسلوبه في ذلك!..
وهذه بعض المظاهر التربوية في القرآن:
المظهر الأوّل: أنّه صبغ كلّ المواضيع التي طرقها وعالجها، بصبغة الهدي والموعظة والإرشاد. فلم ينسق هذه المواضيع والأبحاث على أساس وحدات منفصلة ومستقلة عن بعضها، كما هو شأن عامة الكتب والمؤلفات المعهودة، إذ هي بذلك لا تؤدي عملها التربوي المقصود في نفس الإنسان، وإنما بثّ في جميعها شرايين التوجيه والنصح والهداية، فصيرها بذلك وحدة كاملة متضامّة تعمل عملاً واحداً وتسير بالإنسان نحو غاية لا تختلف.
المظهر الثاني: فالقرآن لم يصبّ أحكامه وفرائضه في حياة النّاس دفعة واحدة، لكنه سعى بهم إليها على مراحل وفي خطوات رتب بعضها على بعض ومهدت السابقة منها للاحقة. وذلك كما قد علمت من دعوته الناس إلى العقيدة الصحيحة أوّلاً، ثمّ إلى الإصلاح النفسي والاجتماعي ثانياً، وكما قد علمت من تدرجه في تحويل الناس عن عوائدهم وفواحشهم التي تعودوا عليها.
المظهر الثالث: السير بالناس، في كّل ما يلزم به من الأحكام، نحو السهولة واليسر؛ وإقناعهم بأنّ كلّ ما قد يتصورونه قيوداً ليس إلا أسساً لابدّ منها لسعادتهم ولصلاح معاشهم ومعادهم، فهو يقول مثلاً: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة/ 6)، ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، ويلفت نظرهم إلى أنّ الشريعة الإسلامية إنما تحمل إليهم في طيها سر الحياة السعيدة للفرد والجماعة فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24)، ويقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
المظهر الرابع: أنّه يضع المتأمل في آياته في حالة وسطى بين الخوف من عذاب الله تعالى، ورجاء رحمته وعفوه؛ وذلك كي لا يسيطر عليه من الرهبة والخوف ما يجعله في يأس من سعة عفوه، فيمضي بذلك في الطريق التي يشتهيها لاعتقاده بعدم الجدوى من الحضر والاستقامة، ولكي لا يفيض قلبه أملاً بمعاني الرحمة والمغفرة وحدها، فلا يجد بذلك ما يصده عن ارتكاب أي منكر والانحراف إلى أي زلل.
والقرآن يربي النفس البشرية هذه التربية باتباع أسلوبين:
الأوّل: أنّه حينما يصف الكفرة والمشركين الذين استحقوا عذاب الله ونكاله يصفهم بأسوا أعمالهم وأحط ما انتهوا إليه من الخصال، حتى إذا تأملت في حالهم رجعت إلى نفسك فقلت: أحمد الله على أني لست منهم ولم أبلغ مبغلهم في السوء والانحراف. وحينما يصف المؤمنين الذين استحقوا ثواب الله ورضوانه، يصفهم أيضاً بأسمى خصالهم وأفضل أعمالهم حتى إذا تأملت في حالهم، عدت إلى نفسك تقول في تألم وأسف: أين عملي من أعمالهم وأين تقصيري من سموِّ درجاتهم. وبذلك تجد ذاتك في حالة وسطى بين الرجاء في عفو الله والخوف من عذابه.
ولنضرب مثلاً لتجلية هذا المظهر التربوي في كتاب الله عزّ وجلّ. أنظر إلى هذه الآيات وهي تصف الأسباب التي أدت إلى شقاء صنف من الناس يوم القيامة: (يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المدثر/ 40-46)، فأنت إذا سمعت هذه الأوصاف حمدت الله على أنك لست منهم مهما كنت مخطئاً ومقصراً.
ثمّ انظر إلى هذه الآيات الأخرى وهي تصف الأسباب التي بها يسعد الناس في حياة خالدة يوم القيامة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) (الفرقان/ 63-65)، أو إلى هذه الآيات التي يقول فيها الله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 15-17)، فأنت إذا تأملت هذه الأوصاف، تضاءلت نفسك أمامك، وتبدت لك منها مظاهر التخلف والتقصير.
ومن هاتين النظرتين يتولد الخوف والرجاء ويتمازجان في حياة الإنسان؛ ويتولد منهما معنى يدفعه في سبيل معتدل يجمع فيها بين الوفاء بحقّ نفسه وحقّ الله عزّ وجلّ.
الثاني: أنّك لا تجد آية في كتاب الله فيها الحديث عن الجنّة ونعيمها وعن الصالحين وما أعدّ الله لهم من المثوبة، إلّا وتجد من بعدها آية فيها الحديث عن النّار وهولها وعن الكافرين وما أعد الله لهم من العقوبة. ولا تكاد تجد في القرآن آية أو آيات قد انفردت بوصف الشدة أو الرخاء دون أن يكون إلى جانبها آية أو آيات فيها وصف الطرف الآخر. والحكمة من ذلك أن لا يرهب الإنسان رهبة تقذف به إلى اليأس، ولا يرغب رغبة تغريه بالقعود والكسل.
ولنضرب بعض الأمثلة على هذا:
1- (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (ق/ 30-32).
2- (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس/ 55-60).
3- (عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 49-50).
4- (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (الزّمر/ 53-54).
وقس على هذه الأمثلة كلّ ما في القرآن من آيات الوعد والوعيد ووصف الجنّة والنار، لابدّ أن تجد الحديث عن كلّ منهما معادلاً ومقارناً للحديث عن الآخر، ولا يمكن أن تعثر على أي شذوذ في ذلك.
وهذه الظاهرة، من أدق مظاهر المنهج التربوي وأهمها في كتاب الله عزّ وجلّ إذ هي التي تضع الإنسان في مستوى العبودية لله عزّ وجلّ، حيث تشدّه إليه رغبة ورهبة بآن واحد؛ وهي النهاية التي ينبغي أن ينتهي إليها العبد بالنسبة لربه جلّ جلاله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق