العلامة الراحل السيد محمّدحسين فضل الله
العقل في القرآن الكريم:
لا يزال الحديث عن مفردات كلمة (العقل) في القرآن الكريم، لأنّ مسألة العقل هي الأساس في حركة الإنسان كلّها. فالعقل هو الذي يؤكّد للإنسان وجود الله وتوحيده، ويؤكّد له النبوّة من خلال الأُسس التي ترتكز عليها فيما يقدِّمه النبيّ للناس من دلائل، وهو الذي يفتح للإنسان نافذةً على الإيمان باليوم الآخر، ويجعله في حالة طوارئ فكرية يستحضر فيها عقلَه في كلِّ ما يريد أن يفعل ليسأل لماذا يفعله؟ وفي كلِّ ما يتركه، لماذا يتركه؟ وفي كلِّ موقف يفعله سلباً أو إيجاباً، في أيّة مسألة ثقافية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية وما إلى ذلك، بحيث يستنطق عقله في ما يمكن أن يدركه، ويستنطق عقول الآخرين ليتكامل عقلُه مع عقول الآخرين.
وقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان في علاقاته مع الآخرين الذين يستسلم إليهم، سواء كان ذلك الاستسلام في الخطوط الثقافية التي يتحرّكون من خلالها، أو دينياً في التعبّد بكلّ ما يقولون، أو في اعتبارهم الواسطة بينه وبين الله في إبلاغ الرسالة، أراد للإنسان أن يدرس عقل هؤلاء عندما يريد أن يلتزم بفكرهم أو سياستهم أو عندما يأخذ منهم المشورة والنصيحة.. هل يملكون الأساس الذي يمكن أن يعطوك من خلاله الخطّ الصحيح والرأي الصحيح أم لا؟ وهل يملكون العقل الذي ينفتحون فيه على الفكر الصائب أو الموقف الصائب؟. فالمسألة هي أن تُحرِّك عقلك في ما تنتجه من خلاله، وأن تنفتح به على الآخرين في مستواهم العقلي ومستوى القدرة عندهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المسألة في حديثه عن الذين يتّبعون بعض الناس الذين ربّما يعبدونهم كي يقرّبوهم إلى الله زلفى – كما كان يقول بعض المشركين – فيعبدونهم كشفعاء إلى الله، أو يخضعون لهم لأنّهم يعتقدون أنّ لديهم أسراراً مقدّسة تفرض عليهم هذا الخضوع، ونجد القرآن يناقش هذه المسألة بطريقة عقلانية، وهو الأسلوب الذي اتّبعه القرآن دائماً، في الانفتاح على الإنسان بالفكرة ليقتنع بها، ولا يعمل على إسقاط الإنسان بطريقة السُّباب والشتائم لأنّ دور الرسالات السماوية هي أن تُطوِّر شخصية الإنسان.
وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان هذا دور النبي (ص) في أن يُخرجهم من ظلمات الجهل والتخلّف إلى نور العلم والتقدّم والاستقامة.. لذلك نجد أنّ القرآن يناقش هذه المسألة مع الذين يتّبعون الأصنام، سواء كانوا أصناماً من الحجر أو أصناماً من البشر، بقوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ)، فلا يتوجّهون إلى الله.. (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ) (الزّمر/ 43)، فالقرآن يأمر النبيّ أن يخاطبهم ويدخل معهم في حوار عقلائي، وهو أنّ الإنسان عندما يجعل شخصاً شفيعاً له، فإنّ الشفاعة تُمثِّل الوسيلة التي يمكن أن يصل الإنسان من خلالها إلى غايته. فلابدّ أن يملك هذا الشفيع الأمر الذي يُستشفع فيه، والعقلَ الذي يجعله بالمستوى الذي يرتفع به إلى الدرجات العليا التي تؤهّله لأن يحصل على ما يريد الحصول عليه.. وإذا أردنا أنْ نستوحي القرآن، فإنّ الآية تتحدّث عن أولئك الذين يجعلون البعض شفعاء، ويردّ القرآن هذه الفكرة باعتبار أنّ المستشفعَ بهم لا يملكون القدرة ولا العقل، لأنّهم لا يملكون شيئاً من الحياة والوعي والإدراك الذي ينفتحون من خلاله على أسرار الأشياء، ليتعاملوا معها وليستفيدوا منها بحسب خصائصها لتحقيق ما يراد منهم، ولا يملكون القدرة التي يحرّكون بها الأمور بالسيطرة عليها وتوجيهها إلى الوجهة التي تقصدها، إنّهم مجرّد آلات صمّاء لا تمثّل شيئاً، أو موجودات عاجزة لا تملك شيئاً، ما يجعل الارتباط بها ارتباطاً بالفراغ الذي لا معنى له.
دراسة الشخصيات القياديّة:
ونحن نستوحي من ذلك أنّه عندما نريد الانفتاح على الناس من حولنا ممّن يملكون تأييداً جماهيرياً، أو الذين يحصلون على بعض التقدّم في الموقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.. فالناسُ عادةً ترتبط بهؤلاء وتخضع لهم وتطيعهم وتندفع معهم في ما يخطّطون له من دون دراسةٍ لمستواهم الفكري أو للقدرات القيادية التي يملكونها، بل ربّما يندفع الناس من خلال شعارات فضفاضة هنا وهناك، ومن خلال بعض الأساليب العاطفية، التي ربّما يحتاج فيها الناس إلى حالة من الانفعال والعاطفة.
ونستوحي من القرآن الكريم، أنّ علينا أن ندرس في أيّة شخصية قيادية، أو أيّة شخصية تطرح نفسها للقيادة. الإمكانيات القيادية لهذا الشخص؟ هل يملك العقل المسؤول؟ وهل يملك عمق التفكير العقلي؟ لأنّ القيادة، سواءً كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية، هي من أخطر المواقع في حركة المجتمع أو الأُمّة، لأنّ الإنسان الذي يجلس في موقع القيادة يحاول أن يدفع بالناس إلى ما يخطِّط له، فإذا لم يكن في مستوى القيادة، فقد يؤدّي بالناس إلى الإرباك أو الهلاك أو إلى الفوضى.
كما أنّ علينا أن ندرس فيه تجربته الواقعية في ما يعيشه الناس من قضاياهم وأوضاعهم المحليّة، وفيما ينفتحون فيه على المواقع الدولية والإقليمية؛ لأنّ العالم الآن أصبح بمثابة قريةٍ واحدةٍ، ومن الصعب جدّاً أن تدرس مسألةً محليّة سياسية بعيداً عن دراسة الظروف الإقليمية التي تترك تأثيرها على الواقع المحلّي، كما لا نستطيع أن نتفهّم علاقة الظروف الإقليمية بالجانب المحلّي إلا إذا عرفنا الأوضاع الدولية التي تملك الكثير من المؤثّرات تجاه القضايا الإقليمية والمحليّة.
ربّما كانت مسألة القيادة في الماضي تعيش في الدائرة الضيّقة من حركة الإنسان، وكانت تحتاج إلى ثقافة محدودة، ولكنّ القيادة في الحاضر تشترط أن يكون القائد إنساناً منفتحاً على العالَم كلّه، من خلال القاعدة الفكرية التي يؤمن بها والهدف الذي يتحرّك نحوه، لأنّ مشكلة الوضع القيادي في المجتمع اليوم، أنّ القائد لا يستطيع أن يقود المجتمع بطريقة فردية، بل لابدّ له من وجود شورى من أهل الخبرة من حوله، ونحن نعرف أنّ الرسول (ص) لم يكن يحتاج إلى المشورة، لأنّ الله عصمه، فلا يقول إلّا حقّاً ولا يتحرّك إلّا بالحقّ، ومع ذلك خاطبه تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159)، وقال عن المجتمع المسلم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، لذلك ليست هناك قيادة في العالَم تستطيع أن تستبدّ بالرأي، بل لابدّ لها من أخذ الخبرة من خبير هنا وهناك، ليجتمع الناس على أكثر من رأيٍ واقتراح وأكثر من خطّ، ليصل المجتمع من خلال المشيرين إلى القرار الحاسم في ذلك.
ولعلّ الكثير من مشاكلنا، هو أنّ الفوضى السياسية والاجتماعية والدينية ربّما صنعت لنا قيادات ليست في المستوى المطلوب، ما يجعلنا نعاني من كلِّ الأوضاع السلبية والإرباك من خلال ذلك.
الحقّ المطلق:
(قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (الزّمر/ 44)، فليس هناك في العالَم أحد، سواءً من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم، من يملك الشفاعة ذاتيّاً، لأنّه ليس له أن يملك أيَّ شيء في الكون، بل الله وحده الذي يملك الأمر كلّه في السماوات والأرض، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الزّمر/ 44)، وهو يملك الإنسان، لأنّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، وهو وحده سبحانه المالك لكلّ شيء، فهو يملك ما يملكه الإنسان وما يحيط به، وهو القادر من خلال ملكه على الكون كلّه، وهو الشفيع الذي يعطي ويرحم ويلطف وبقدرته يحرِّك كلّ ما يريد للحياة أن تتحرّك فيه. ثمّ يقول تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الزّمر/ 44).. ليكن توجّهكم لله سبحانه الذي يملك الشفاعة جميعاً، ويملك السماوات والأرض جميعاً، وإنّ مرجعكم إليه سبحانه وتعالى، فعليكم – أيضاً – أن تتحرّكوا في موقع العبودية لله من موقع أنّه الغني المطلق أمام الحاجة المطلقة والفقر المطلق الذي يعيشه الناس، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15). وعلى هذا نفهم مسألة الشفاعة، من حيث إنّ الله وحده يستقلُّ بها، فهو الذي يغفر ويرحم والجنّة بيده، وهو الذي برضاه يعطي كلّ شيء للإنسان، وهو الذي يعطي الشفاعة ليعفي مَن يرى فيهم الإخلاص له من خلال التزامهم في كلّ ما يُرضيه وما يحبّه وما يريده، وقد ورد ذلك في أكثر من آية كريمة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ) (البقرة/ 255)، (لا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/ 28)، (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام/ 51).
كما نفهم أنّ الإذن بالشفاعة لا يعني الإذن الشخصي، بأن يعطي الله لكلّ نبي أو إمام أو مؤمن يملك الشفاعة إذناً بالشفاعة لهذا وذاك، ولكنّ الله أعطاهم برنامجاً للشفاعة، فهم يعرفون فيمن يشفعون له ويعرفون رضا الله فيه، وكذلك يعرفون مواقع الشفاعة فيمن لا يشفعون له في مواقع سخط الله. فهم يتحرّكون ضمن البرنامج الإلهي للشفاعة، وعلى الناس أن يطلبوا من الله الشفاعة، ولعلّ أفضل تعبير ما جاء في دعاء يوم (الخميس) المنسوب للإمام زين العابدين (ع) بقوله: "واجعل توسّلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً" يعني يا ربّ اجعل توسلي لك بنبيّك شافعاً لي، أي أعطه الشفاعة واجعله شافعاً لي واجعل شفاعته نافعةً لي، بحيث يكون الخطاب كلّه لله، ولا يتنافى في ذلك مع كونهم شفعاء.
بين الشفاعة والتوحيد:
هناك بعض الاتجاهات الإسلامية حاولت أن تُنكر الشفاعة، وأن تعتبر التوسّل بالأنبياء (عليهم السلام) والأولياء شركاً، ولكنّ مشكلة هؤلاء أنّهم لا يفهمون الفرق بين التوحيد والشرك؛ لأنّ معنى التوحيد هو أن يؤمن الإنسان بأنّه ليس في الوجود إلّا الله (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) (القصص/ 88)، وأنّ كلَّ ما عدا الله فهو مخلوق لله، وأنّ كلَّ مَن عدا الله فهو مملوك لله، وكلّ ما عدا الله سبحانه فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً.. والذين يقولون بالشفاعة للأنبياء والأولياء لا يعتبرون أنّهم يملكون ذلك ذاتيّاً، أي كما انّ الله شفيع فإنّ الأولياء شفعاء، بل يعتبرون أنّ الله أكرمهم، لأنّهم أطاعوه وجاهدوا في سبيله، فأكرمهم بالشفاعة للخاطئين، فالأولياء يعيشون في خصوصيّاتهم عناصر البرنامج الذي وضعه الله للشفيع لكي يشفع على أساسه؛ فهم يتحرّكون في شفاعتهم من خلال رضا الله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/ 28).. ثمّ نلاحظ أنّهم عندما يشعفون، فإنّهم لا يشفعون من خلال الحالة النفسية التي تجعلهم يشعرون بالعلوّ وما إلى ذلك، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء/ 28)، فهم يشفعون ويطلبون من الله أن يغفر لهذا أو يعطي هذا أو ذاك، ولكنّهم مع ذلك يعيشون في طلبهم هذا عبوديّتهم لله سبحانه وتعالى، وخضوعهم أمام الربوبية المطلقة والألوهيّة الشامخة والخالقية المالكة والقاهرية المهيمنة، فيتضاءلون أمامه ويخشعون له في كلّ حالة يخاطبونه بها أو يطلبون منه شيئاً لهم للآخرين، لأنّ الأمر أمره والإرادة إرادته، ولا يعرفون ماذا يفعل في ذلك كلّه، فهم يعرفون أنّهم لا يملكون من الأمر شيئاً من الناحية الذاتية، ولكنّ الله سبحانه ملّكهم ذلك من أجل الكرامة التي يستحقونها، كما وصفهم سبحانه بقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء/ 26-27)، لذلك فإنّ التوسّل بالأنبياء (عليهم السلام) أو الأولياء أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) لا يُعتبر شركاً..
ونحن ندعو الكثير من المسلمين الذين يتحرّكون من موقع العقدة ضدّ المسلمين الآخرين، فيتّهمون هذا بالشرك أو ذاك بالكفر، إلى أن يأخذوا بأسباب العلم والتحقيق، وأنْ يدرسوا ما عند الآخرين، كما أنّ على الآخرين أن يدرسوا ما عندهم، ولكنّ المشكلة في العالم الإسلامي أنّ المسلمين يعيشون على أساس العقد التاريخية التي أخذ بها المسلمون من خلال الاختلاف في الرأي أو المذهب، فأصبحوا يتحرّكون بالحقد لا بالمحبة، وبالعداوة لا بالأخوّة، وهذا هو الذي جعل العالم الإسلامي يواجه الكثير من المشاكل في كلّ حياته، لأنّ المسلمين لم يعتصموا بحبل الله جميعاً، ولم ينطلقوا من موقع وحدة الأُمّة في هذا وذاك.►
المصدر: كتاب العقل في القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق