الإمام عليّ بن موسى الرِّضا (عليه السلام) الثامن من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ونحن بحاجةٍ إلى أن نتمثَّل هذه الرموز المقدَّسة التي توحي إلينا بكلِّ ما يملأ عقولنا بالفكر، وقلوبنا بالخير، وحركتنا بالإصلاح، لأنّهم انطلقوا في خطِّ الرسالة، ولأنّهم الأمناء عليها وحرَّاسها في كلّ الساحات التي يمكن أن ينحرف فيها الخطّ، أو ترتبك فيها الأُمور، أو تتعقَّد فيها القضايا.. وعندما ندرس الإمام الرِّ ضا (عليه السلام) فيما يتمثَّل في مجتمعه في النظرة إليه، فإنّنا نلتقي ببعض الكلمات التي تلخّص ذلك، ففي بعض الكلمات، أنّه رُوِي أحدهم حيث قال: «ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرِّضا، ولا رآه عالم إلّا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلّا أقرَّ له بالفضل...». وهذه شهادة معاصر لا يتحدَّث عن نفسه في تقويمه للإمام الرِّضا (عليه السلام)، ولكنّه يتحدَّث عن الواقع الإسلامي الذي كان يحمل مثل هذا التعظيم للمستوى العلمي الذي يملكه الإمام الرِّضا (عليه السلام) في تأثيره في المجتمع كلّه.
وهناك كلمة للإمام الرِّضا (عليه السلام) وهو يحدّث عن تفاعل الناس معه: «كنت أجلس في الروضة ـ روضة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إليَّ بأجمعهم، وبعثوا إليَّ بالمسائل، فأجيب عنها». فما نستوحيه من هذه الشهادة، وهي شهادة حقّ، أنّ العلماء في المدينة كانوا لا يتحسَّسون ممّا قد يتحسَّسه العالم تجاه عالم آخر، وممّا يتَّهم فيه العلماء بالحسد، بل كانوا يعيشون الاحترام الذي يشعرون فيه بتفوّقه (عليه السلام) عليهم. وهكذا يُروى عن أبيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه كان يقول لبنيه: «هذا أخوكم عليّ بن موسى، عالم آل محمّد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم». هذه الشهادات وغيرها تدلِّل على أنّ الإمام (عليه السلام) استطاع في حركته العلمية أن يحصل على ثقة المجتمع الإسلامي في المواقع التي تتجمَّع فيها النوادي الثقافية، كما نعبّر هذه الأيّام، أو المدارس العلمية، ففي ذلك الوقت، كانت (المدينة) مركز علم، وكانت (بغداد) مركز علم، كما كانت (طوس) ـ في عهد المأمون المعروف بتشجيعه على العلم ـ مركز علم.. فإذا استطعنا أن نخلص من كلّ هذه الحصيلة إلى أنّ هذه المراكز أو المدارس العلمية كانت تشهد له بالعلم من خلال علمائها، لا من خلال الناس العاديين، نستشفّ المستوى البارز للإمام (عليه السلام) في تلك المرحلة.
لهذا، نحن نتصوَّر أنّه لابدّ من دراسة كلّ تراث هذا الإمام العظيم، لأنّه يمثِّل تراثاً واسعاً في الجوانب الفلسفية والفقهية والتفسيرية والأخلاقية والحركية، بحيث إنّ الإنسان الذي يدرسه، يستطيع أن يخرج بثقافةٍ إسلاميةٍ موسوعيةٍ متنوّعة الجوانب، ممتدّة الأبعاد. والإمام (عليه السلام) بما يحتويه من علم عميق ينشره في مختلف أرجاء المجتمع لقوله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7). ولهذا انطلقت النظرية الإسلامية من أجل أن تكون إنساناً، وأن تكون مسؤولاً عن الإنسان حولك، وعن الإنسان بعدك، وأن تعطي من كلّ نفسك. أمّا إذا كنت تعيش لنفسك، وكنت الأناني البخيل بعلمك، البخيل بخبرتك، البخيل بقوّتك، البخيل بجاهك، البخيل بطاقتك، وبكلِّ ما عندك، فأنت من أسوأ الناس معاشاً، لأنّك سجنت نفسك في داخل زنزانة ضيِّقة هي ذاتك، ولأنّك عشت تماماً كما البِركة، فيها من الماء ما تستعمله، ولكنّه بعد ذلك يتعفَّن. فهل تريد أن تكون كالحوض الذي يأسن، أو تريد أن تكون كالأنبوب الذي يتدفّق ويبقى يعطي مهما استعملته؟ «أحسن الناس معاشاً من حَسُن معاش غيره في معاشه... وأسوأ الناس معاشاً مَن لم يعش غيره في معاشه».. ختاماً، لقد كان الإمام الرِّضا (عليه السلام) القمَّة في العلم والعبادة والأخلاق والقُرب من الله في عبادته وطاعته، وعلينا أن نعمل على أساس الالتزام بسيرته التي تمثِّل الإسلام كلّه، كما هي سيرة آبائه وأبنائه (عليهم السلام)، فقفوا وتأمّلوا كلَّ حياته، ولتقتدوا به، فأهل البيت (عليهم السلام) هم القدوة لنا في كلِّ ما يريده الله منّا في توحيده وطاعته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق