قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183) يستوحى من آيات الذكر الحكيم عند بيانها فلسفة تشريع فريضة الصوم أنّ الصوم يهدف في حقيقته للتدرب على رصد النفس وممارسة هذه العملية لارتقاء سلم التقوى والفوز بضبط النفس والرقابة الذاتية عليها والتقدم بخطى راسخة نحو نيل الكمال. إنّها الفلسفة الأساسية لتشريع هذا الحكم الإلهي. أما مردوداته الإيجابية الأخرى مثل الفوائد الصحية المتأتية من الصيام فإنّها فوائد فرعية جانبية. على هذا فإنّ المؤمن لا يضمر نية غير إطاعة أوامر الله والتقرب إلى ذاته المنزهة في صيامه الذي جعله عزّ وجلّ وسيلة التقرب إليه وأسلوباً لنيل التقوى. ففي خطبتها الوضاءة التبصيرية التي ألقتها في الأيّام الأولى بعد رحيل النبيّ الكريم (ص)، وصفت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعبارتها البليغة "والصيام تثبيتاً للإخلاص" هذه الفريضة بأنّها مدعاة تثبيت الإخلاص أو ربما مقياس لتقييم هذه الخصيصة. على هذا لا يحتسب مجرد تحمل الجوع والعطش صياماً واقعياً، بل هو – كما جاء بيانه في حديث سابق عن الإمام عليّ (ع) – ضبط شامل للنفس. وقد أشارت سيدة نساء العالمين الزهراء (عليها السلام) في حديث آخر لها أنّ الصوم المقبول هو ما يصد اللسان والآذان والأعين وجميع أعضاء الجسم عن المعاصي وعن الجنوح إلى الباطل. ببيان هذه المقدمة نكون قد مهدنا السبيل لفهم هذا الكلام الوضاء عن إمام المتقين عليّ (ع): "صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام". فمثل هذا الصوم لا يتضمن تحمل الجوع والعطش فقط بل انّه لدوره في التحلي بضبط النفس وتجنب المعاصي يمثل حصناً يصون المؤمن من نار جهنم، ولا يظل هذا الحصن قائماً في ظل صيانته من الانهيار بتجنب المعاصي. ولهذا نجد أنّ رسول الله (ص) وبعد إلقائه الخطبة الشعبانية وتنويهه إلى المزايا الفائقة لشهر رمضان المبارك وحثه النّاس للإفادة الجادة والواعية من نعم هذا الشهر وتذكره بمشاهد يوم القيامة ودعوته للإنفاق على الفقراء واحترام الكبار والرأفة بالصغار وصلة الأرحام وكف الألسن والأعين والآذان عن المعاصي والعطف على الأيتام والابتهال إلى الله لغضه عما صدر عن عبده من الذنوب، واستضافة الصائمين المؤمنين وتقديم طعام الإفطار إليهم وإن كان بسيطاً، وتهذيب الأخلاق والاستزادة في الصلاة والإكثار من الصلاة عليه (ص) وتلاوة القرآن، أعلن عن توفر فرصة متميزة في هذا الشهر حيث أبواب الجنّة فيه مفتوحة وأبواب النيران فيه مؤصدة والشياطين فيه مغلولة، عندئذ نهض الإمام عليّ (ع) يسأله (ص) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فأجاب (ص): الورع عن محارم الله عزّ وجلّ. ولنا أن نستبين المكانة المتميزة للصيام وفاعليته في ارتقاء نار غضب الله تعالى، من خلال التعابير المختلفة التي تضمنتها أحاديث رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع)، ومنها رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) حيث جاء في باب حقّ الصوم على الإنسان. "واما حقّ الصوم فإن تعلم أنّه حجاب ضربه الله عزّ وجلّ على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النّار فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك". إنّ الصوم ينزه الإنسان من المعاصي ويخرجه من وزرها كما يخرج الوليد من بطن أُمّه منزهاً بريئاً من كلّ إثم. عن جابر بن عبدالله الأنصاري عن الإمام محمّد الباقر (ع): "يا جابر من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره وقام ورداً من ليله وحفظ فرجه ولسانه وغض بصره وكف أذاه خرج من الذنوب كيوم ولدته أُمّه. قال جابر: قلت له جعلت فداك ما أحسن هذا من حديث. قال: وما أشد هذا من شرط". من المسلّم به أنّ الصوم لا يكون مدعاة غفران الذنوب إلّا برعاية هذه الشروط. بعدئذ يقول الله تعالى لملائكته - كما ورد عن رسول الله (ص) - "يا ملائكتي اشهدوا إني قد غفرت له". وجاء في إحدى الأحاديث القدسية: "الصوم لي وأنا أجزي به".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق