• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المتفرج

عادل أبوشنب

المتفرج
   - الصمت.. ما المانع في أن يقول كلمتين اثنتين لهذه الجالسة قبالة النافذة تتشمس في يوم من أيام آذار المشمسة؟ كان بحاجة إلى ضوء ليتابع قراءة جريدة الصباح، وكان جسد زوجته العجوز يحول بينه وبين أن يحظى بضوء ما، يساعده في القراءة. همّ بالكلام، لكنه لم يخرج حرفاً واحداً من فمه. تملأ الكلمات التي تبادلاها في أكثر من خمسين سنة سلالاً ضخمة، فما معنى أن يضيف كلاماً جديداً إليها، حتى لو كان الكلام خاصّاً بطلب متواضع: أن تنحرف المرأة بجسدها قليلاً عن النافذة ليملأ الضوء صفحة جريدته الكابية التي لا يقدر على قراءتها الآن؟ آثرت الصمت. كان يشعر بجمال الصمت، هذا الصباح، على الرغم من حاجته الملحة إلى الضوء. كان الصمت أكثر جمالاً وحضوراً في نفسه من هذا الضوء.   - الحرِّية.. حار الرجل في أمر عصافيره. كان كلما اقتنى عصفوراً ووضعه في القفص، وجلب له الطعام والماء وأسباب الراحة، اكتشف في اليوم التالي فرار العصفور. بدا له الأمر لغزاً، لأنّه كان يكتشف، كل مرة، أنّ القفص مغلق، فكيف يتسنى للعصفور الهرب؟ ذات ليلة اختبأ الرجل في ركن مظلم وراح يراقب القفص المدلّى من السقف. وفي منتصف الليل، رأى ابنته الصغيرة ذات السنوات العشرة تسير على رؤوس أصابعها نحو القفص. وبثوانٍ معدودات وقفت على كرسي وفتحت باب القفص وأطلقت العصفور، فطار مصفقاً بجناحيه، فرحاً. عندما واجه الأب ابنته الصغيرة لم تجبن ولم تنف، بل قالت في شجاعة: - لا تلمني يا أبي. صدّق أنني لا أستطيع النوم، ولا يغمض لي جفن، ما دام عصفور حبيس قفص!   - الشجاعة.. عوقب تلاميذ الصف لأنّ تلميذاً غافل المعلم الواقف إلى السبورة وصفر صفيراً حاداً. لم يعترف أحد، فقرر المعلم أن يبقي التلاميذ أربع ساعات إضافية في المدرسة عقاباً لهم، وأنذرهم بأنّه قد لا يفرج عنهم بعد ذلك، وخلال الليل، مالم يعترف الفاعل بارتكاب هذه الفعلة الشائنة. جبن الجميع. لم يجرؤ واحد على ذكر اسم الفاعل، كانوا يخافون منه، لأنّه كان أكبرهم وأغلظهم، لكن تلميذاً شذ ورفع إصبعه. قال المعلم: - تكلم.. قال التلميذ الصغير: - أنا الذي صفر يا سيدي. عاقبني واترك التلاميذ يرحلون إلى بيوتهم. شكّ المعلم، لكنّه أمام الاعتراف الصريح سمح للتلاميذ بالانصراف، وأبقى التلميذ المعترف، فتدافعوا نحو الباب، وعند الباب وقف الفاعل الحقيقي، الأكبر والأغلظ، نظر إلى التلميذ المعترف وإلى المعلم، ونقل بصره بين الاثنين عدة مرات، وشعر بوخزة ضمير. أيكون جباناً أمام تلميذ صغير شجاع، اعترف بما لم يقترفه؟   - الواقعة.. كان الشاعر يلقي أبياتاً من شعره أمام جمهور محب معجب. وكانت الأبيات تقول كلاماً جميلاً بحق النساء اللواتي يحبهن الشاعر كثيراً، مما جعل الفتى الذي كان يحضر الأمسية الشعرية يصاب بالقرف والامتعاض، وفكر أكثر من مرة بمغادرة المكان. كان الفتى جاراً للشاعر، بيته لصق بيته، وكانت جدران الغرف لا تمنع الأصوات من التسلل بين البيتين، وهذا الصباح سمع الفتى الشاعر ينهر زوجته ويضربها، وكانت المرأة تبكي بكاءً يقطع نياط القلوب. شعر الفتى أنّ الشاعر يكذب بغزله، وأنّه يدعي حب المرأة وهو يهينها، فلم يتمالك نفسه، وقام يقاطع الشاعر ويصرخ: - أنت كذاب. أنت عدو المرأة ولست حبيبها. اليوم سمعتك بأذني وأنت تضرب امرأتك وتسبّها. أحدثت المفاجأة هرجاً ومرجاً بين الحضور، وفيهم من تحرك ليمسك بالفتى، لكن الفتى خرج ناجياً بنفسه. كان يشعر بالراحة لأنّه انتقم من الشاعر شر انتقام. طوى الشاعر الصفحات التي بين يديه، وأعلن أن أمسيته الشعرية قد توقفت بسبب هذه الواقعة الطارئة المؤسفة.   - العشق.. كان للفتاة، ابنة الثالثة عشرة، قطة جميلة، لا تغادرها قط. وكانت الفتاة تعني بها، كأنّها صديقتها الأثيرة، ولا تتناول طعامها إلا معها وبحضورها. وفي ظهيرة أحد الأيام أعدت الفتاة الطعام لكليهما، وجلست تنتظر القطة، لكن هذه تأخرت كثيراً. حزنت الفتاة ولم تأكل، وراحت تبحث عن القطة في كل مكان في البيت فلم تعثر عليها، واستبد بها الغم والكمد حتى دمعت عيناها. بعد طول انتظار سمعت الفتاة مواءً، فهبت فرحة لملاقاة القطة، ودهشت إذ رأتها تعود إلى البيت برفقة قط في مثل سنّها، جميل، تياه بنفسه، يتبختر في مشيته، ويموء مواء عشق.. عندئذ شعرت الفتاة بحقد جامح على صديقتها القطة، ورفعت يدها وراحت تضربها بشدة لأوّل مرّة في حياتها، وكانت دموعها تسيل على خديها. وراح القط العاشق يموء بغضب وبصوت أجش.   - النكوص.. دفع جسده دفعاً عبر البوابة الأولى. كانت قاعة المسافرين في المطار غاصة بالناس، المستقبلين المودعين والمسافرين، وبخطوات غير متزنة سار إلى كوة الأمن ليحصل على تصريح أخير بالسفر. سيرحل. ما الفائدة في أن يكون في بلده رقماً من الأرقام، غريباً منبوذاً وغير معترف بمواطنيته، يعلك أيامه علكاً في البيت والطريق والحديقة والمقهى؟ كان أمامه أربعة رجال وامرأة وطفلان، وكان يحمل باليد اليمنى جواز سفره الجديد، ويحمل باليسرى حقيبة صغيرة، فيها قميصان وبنطال وزوجان من الجوارب وملابس داخلية، ورسائل كان قد تلقاها من أصدقاء قدامى، مقيمين في بلاد نائية. كان يفكر ملياً في هذا السفر الذي اختاره نجاة له مما كان يغرق فيه في مدينته التي عاش فيها شبابه وجزءاً من كهولته. التفت إلى الوراء. كان الناس المودعون متجهمين كأنهم يمشون في جنازات المسافرين الذين يجتازون الآن كوة الأمن. أحسّ بجفاف في حلقه وبغبش في عينيه، وبغصة في قلبه، ومع أنّه لم يكن ثمة أحد يودعه، فقد شعر أنّ الناس يمشون في جنازته هو، جنازته التي ستحمل جثته إلى قبر بعيد موحش وبارد. ولم يفعل أكثر من أنّه استدار وعاد من حيث أتى.   - المنديل.. كانت الفتاة جميلة جدّاً، وكان من دعاباتها التي اعتادت عليها أن تلقي بمنديلها الأبيض المطرز، ليهبّ شبان مارون في الطريق، مأخوذون بجمالها لالتقاط المنديل من الأرض، وإعادته إليها. كانت بذلك تختبر وقع جمالها، وكانت تغمرها سعادة فائقة دائماً. غارت منها ابنة عمها. لم تكن هذه جميلة قط. كانت بارزة الخدين، صغيرة العينين، مدببة الذقن، جعداء الشعر. وفي أحد الأيام تناولت منديلاً أبيض مطرزاً، وسارت في الطريق، وعندما رأت كوكبة من الشبان ألقت بالمنديل إلى الأرض، كما تفعل ابنة عمها، منتظرة أن يهبّ الشبان لالتقاطه وإعادته إليها، لكن أحداً من الشبان لم يفعل. التقطت ابنة العم المنديل بنفسها، ورمقت الشبان في عداء، لكن كآبة سوداء غزتها من رأسها إلى قدميها!   - الشبع.. عرفت الخادمة الصغيرة كيف تجلب العصافير إلى الشرفة. كانت تحمل زوراً من حبات "البرغل"[2]، وتنثرها في أرض الشرفة، كل صباح، وكانت العصافير تهرع فتلتقط الحبات بمناقيرها، وتغرد فرحاً بالشبع. اكتشفت سيدة البيت فعلة خادمتها فأنبتها، ومنعتها من حمل حبات (البرغل) إلى الشرفة، ويوماً بعد يوم تناقص عدد العصافير الزائرة، حتى توقفت العصافير تماماً عن زيارة الشرفة. حزنت الخادمة الصغيرة حزناً كثيراً لغياب العصافير، ولم تجد حلاً، آخر الأمر، إلا باقتطاع جزءٍ كبير من طعامها، راحت تلقيه على أرض الشرفة وقتئذٍ عادت العصافير إلى الشرفة تغرد فرحاً بشبع لم يتوفر لها إلا بسبب جوع الخادمة التي كانت تحب سماع أصوات العصافير كل صباح.   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 1493
[1]- من مجموعة قصصية جديدة للقاص تحمل الاسم نفسه. وهذه القصص تنشر للمرة الأولى والمجموعة قيد الطبع. [2]- البرغل ذرات مجروشة من القمح تستعمل في طبخ بعض الأكلات الدمشقية.

ارسال التعليق

Top