فانسا جوف/ ترجمة: جمال إسماعيل
القراءة نشاط معقد ومتعدد يتطور باتجاهات عدة. ومن بين أطروحات عديدة مقترحة سنرتكز على أطروحة جيل تيريان Gilles Therien (من أجل سيميائية القراءة) التي ترى في القراءة سيرورة لها أبعاد خمسة:
1- سيرورة عصبفيزيولوجية:
القراءة قبل كل شيء هي فعل محسوس قابل للملاحظة ويتطلب من الكائن الإنساني استعدادات محددة. والقراءة غير ممكنة في الواقع دون استخدام الجهاز البصري ومختلف وسائط الدماغ، فهي وبشكل سابق على أي تحليل للمضمون عملية إدراك ومطابقة وتذكر للعلامات. وقد حاولت دراسات مختلفة من بينها دراسة فرانسوا ريشودو Francois Richaudeau (القروئية) La Lisibilite أن تصف بدقة مثل هذا النشاط فأظهرت أنّ العين لا ترى العلامات الواحدة تلو الأخرى وإنما بشكل حزم من العلامات، كما أن حركة النظر ليست خطية ولا منتظمة، بل هي قفزات مفاجئة وغير متواصلة (متقطعة) تتخللها وقفات تطول أو تقصر تتراوح بين ثلث الثانية و(ربعها) تسمى بعملية الإدراك، تسجل العين بدقة خلال هذه الوقفات ست أو سبع علامات مستبقة بقية العلامات بفضل رؤية "دائرية" فضفاضة. هذا ويسهل على القارئ فك الرموز بقدر ما يتضمن النص كلمات موجزة وقديمة وبسيطة ومتعددة المعاني. من جانب آخر، تتأرجح قدرة الذاكرة المباشرة للقارئ (Empan) بين ثماني كلمات وست عشرة، والجمل الأكثر تكيّفاً مع الأطر الذهنية للقارئ هي الجمل القصيرة المبنية. وبيّن ريشودوا أنّ المؤلف حينما لا يراعي هذه المبادئ الهامة للقروئية تصبح كل الانزلاقات الدلالية ممكنة، بالتالي لا يعود النص (المقروء) هو نفس النص (المكتوب) وظاهرة كهذه، وهي بالتأكيد ليست نادرة في الحقل الأدبي (لنفكر بحالة بروست كواحدة من حالات أخرى) تظهر أن فعل القراءة نفسه ذاتي جدّاً. وبتفحص عملية القراءة في مظهرها المادي تبدو دفعة واحدة وكأنها حركة استباق وبناء وتفسير.
2- سيرورة فكرية:
ما إن يفهم القارئ ويحلل العلامات حتى يسعى إلى فهم المقصود من الموضوع. وتحويل الكلمات ومجموعات الكلمات إلى عناصر الدلالة يتطلب جهداً من التجريد كبيراً.
يمكن لهذا الفهم أن يكون في حده الأدنى فينصب فقط على الحدث الجاري، لذا فإنّ القارئ المهتم تماماً بالوصول إلى الخاتمة يركز انتباهه على تتابع الأحداث. فالنشاط الفكري يفيده في التقدم الحثيث في الحبكة وهذا عين ما يحدث عموماً عند قراءة الروايات البوليسية أو قصص المغامرات لكن حين تكون النصوص أكثر تعقيداً، فالأمر يبدو معكوساً، إذ يستطيع القارئ أن يضحي بالتقدم في القراءة لمصلحة التفسير. فالقارئ حين يتوقف عند هذا المقطع أو ذاك، يحاول الإمساك بجميع العلامات التي ينطوي عليها. ويصف بارت Barthes بدقة هاتين الممارستين للقراءة في كتابه (لذة النص) Plaisir du Texte:
"ثمّة قراءة تتجه مباشرة إلى مفاصل القصة، تهتم بامتداد النص وتجهل ألعاب اللغة (فإذا قرأت جيل فيرن، فإنني سأمضي سريعاً، سأضيّع أطرافاً من الخطاب، مع ذلك فقراءتي لن تفتن بأي ضياع للكلام – بالمعنى الذي تستطيع هذه الكلمة أن تعنيه في فن استكشاف المغاور) أما القراءة الأخرى فلا تعطي شيئاً لأنّها تزن النص وتلتصق به وتقرؤه، إذا جاز القول، حرفياً وبحماسة وتلتقط في كل نقطة من نقاط النص ما حُذِفَ من أدوات الوصل التي تقطع اللغات، دون أن تقطع القصة، إذ ليس الاتساع المنطقي هو الذي يأسرها ولا نزع أوراق الحقائق، ولكنه تقليب أوراق المعنى.
بين "التقدم" و"الفهم" يوجد بالتأكيد أنظمة وسيطة، فهذا المتغيران يستطيعان أن يأتلفا في نسب جد متنوعة. في جميع الحالات، تتطلب القراءة الكفاءة، ويحتاج النص إلى حد أدنى من المعرفة على القارئ امتلاكها إن أراد مواصلة قراءته.
3- سيرورة انفعالية:
تتعلق جاذبية القراءة في جانب كبير منها بالانفعالات التي تثيرها فينا. فإذا كان تلقي النص يستدعي قدرات القارئ الفكرية فإنّ القراءة تؤثر أيضاً – وربما بشكل خاص – على انفعاليته. فالانفعالات في الواقع هي في أساس مبدأ المطابقة وهي المحرك الضروري لقراءة الحكاية. والشخصيات الروائية تشغلنا بمصيرها لأنّها تثير فينا مشاعر الإعجاب والشفقة والضعف أو التعاطف. وكان توماتشفسكي Tomachevski قد بيّن مع مطلع القرن العشرين أولوية هذا الانفعال في اللعبة النصية: "كلما كانت موهبة الكاتب عظيمة، صعبت مقاومة توجهاتها الانفعالية، وبالتالي يصبح العمل الأدبي أكثر إقناعاً، وقوة الإقناع هذه، باعتبارها وسيلة تعليم وتبشير، تبقى مصدر انجذابنا نحو النص" وكان فرويد قد أشار أيضاً إلى قابلية القارئ للتأثر العاطفي والتي تتعلق بها مشاركتنا في عالم النص، وبالتالي بالخبرة التي نستمدها منه:
"أمام ما يحدث لنا في الحياة، نتصرف جميعاً وبشكل عام، بنفس الانفعالية ونبقى خاضعين لتأثير الوقائع، بيد أننا ننقاد إلى نداء الشاعر:
بالحالة التي يضعنا فيها وبالتوقعات التي يوقظها في داخلنا، يستطيع أن يحول مشاعرنا من تأثير ما ليوجهها إلى آخر" ومن السهولة بمكان الإحاطة بدور الانفعالات عند القيام بدور القراءة:
فالتعلق بشخصية ما يعني الاهتمام بما يحدث لها أي بالقصة التي تجسد هذه الشخصية. إذن لأن صلة عاطفية تربطنا بلوسيان روبيجيري نهتم ونحن نواصل قراءة أوهام ضائعة، بالأسباب النفسية والاجتماعية التي أودت بها إلى الهلاك، ولأن شخصيات بروست تبدو بالتناوب جذابة ومنفرة أو مسلية فنحن نجوب عالم البحث عن الزمن المفقود بلذةٍ ونتقبل في الوقت ذاته رؤية الحياة والفن التي تجسدها الرواية لذا فإنّ السعي إلى إفراغ المطابقة النفسية – وبالتالي ما هو انفعالي من التجربة الجمالية يبدو أمراً محكوماً بالفشل. هذا هو الدرس الذي استخلصه كل من ج. لينهاردت وب. جوزا في دراستهما المقارنة لقراء فرنسيين وهنغاريين.
وعند تحليلهما من منظور سوسيولوجي عملية تلقي روايتي (الأشياء Les choses لجورج بيريك Georges Perek ومقبرة الصدأ Cimetiere de rouille لأندريه فيجيس) كتبا الإقرار التالي (بدا جلياً أن سيرورة المطابقة التي أراد بعض الكتاب ومنظرو الأدب استبعادها، ما تزال حاضرة في قلب الأساليب الأساسية لعملية القراءة التي ظهرت أثناء بحثنا وسنشير إليها كأسلوب قراءة تطابقية – انفعالية).
نشير إلى الصلة الوثيقة القائمة بين المطابقة والانفعال، إذ كلما كان أسلوب المطابقة شديد الخصوصية، بدا الالتزام العاطفي بشكل عام مكوناً أساسياً للقراءة.
4- سيرورة إقناعية:
بما أنّ النص حصيلة إرادة مبدعة ومجموعة عناصر منظمة فهو قابل للتحليل دائماً حتى في حالة الشخص الثالث الغائب، "كخطاب" مستمد من موقف الكاتب من العالم والكائنات. وفي مصطلحات البراغماتية نقول إنّ الهدف الخطابي (إرادة التأثير على المرسل إليه وتغيير سلوكه) ملازم للنصوص القصصية كما أشار لذلك ج. م. آدم J. M. Adam في دراسته للقصة "يسعى السرد إلى إيصال المفسّر المحتمل (حالة الاتصال المكتوب) أو الراهن (حال الاتصال الشفوي) إلى نتيجة محددة أو صرفه عنه" إن نية الإقناع هي بطريقة أو بأخرى حاضرة في كل قصة. هذا وإذا كانت الوظية الإقناعية تظهر واضحة على وجه الخصوص في الرواية – القضية Romanatiese (رواية الأمل Espoir لأندريه مالرو مثلاً، تسعى إلى إقناع القارئ بعدالة قضية الجمهوريين الإسبان) فإننا نجد هذه الوظيفة في أنماط النصوص الأخرى أيضاً. ففي رواية جاك القدري Jacques le Fataliste لديدرو diderot يلعب ديدرو على وجهات النظر المختلفة محاولا التأثير على القارئ: إذ أن وجهة نظر جاك الذي يعتقد أنّ الحرية وهمية وأن كل شيء مقدر تتعارض مع رأي معلمه المتفائل والمقتنع بوجود حرية اختيار.
ومن العسير أن نؤسس لإحدى الأطروحتين بالمعيار المطلق (إذ كل منظور يبطل الآخر) وبالتالي القارئ ملزم كما يريد ديدرو بالاستنتاج أن لا مرجعية مطلقة. بطريقة مغايرة، ألا يسعنا القول أن عوليس Ulysse جويس Joyce يكثر من الغموض والإبهام في نفس الفقرة متنقلاً من وجهة نظر إلى أخرى دون أن يظهر ذلك بوضوح بحيث يدفع بالقارئ إلى الشك في قدرته على التحليل؟
في حالة كهذه، ربما يقود الهدف الخطابي القارئ إلى التساؤل عن طريقة تصوره للمعنى. أياً كان نمط النص فإنّ القارئ يميل وبوضوح إلى رأي ما. مع ذلك يؤول الأمر إليه في تبني مجموع الأدلة المبثوثة في النص أو رفضها.
5- سيرورة رمزية:
سيتخذ المعنى الذي نستخلصه من القراءة (التفاعل مع الحكاية، والأدلة المطروحة، واللعب على وجهات النظر) مكانه مباشرة في السياق الثقافي الذي يتطور فيه كل قارئ. فكل قراءة تتفاعل مع الثقافة والترسيمات المهيمنة في بيئة وعصر ما. كما تؤكد القراءة بعدها الرمزي وذلك بالتأكيد على نماذج الخيال الجمعي سواء رفضت هذه النماذج أو أكدتها (ويقوم المعني في سياق كل قراءة بالعلاقة مع أشياء العالم الأخرى التي يقيم القارئ صلات معها، ويثبت المعنى على مستوى خيال كل قارئ لكنه، وبسبب الطابع الجمعي الحتمي لتشكله، ولخيالات أخرى موجودة، يضم أيضاً المعنى الذي يتقاسمه مع الأعضاء الآخرين لجماعته أو مجتمعه). وهكذا تتأكد القراءة كجزء مستمد من ثقافة ما. كما نعلم إلى أي مدى ترك الدوي الهائل لمؤلفات عصر الأنوار آثاره على التطور الفكري للقرن الثامن عشر. لنذكر أن بين أعوام 1748-1754 تعاقب ظهور تب روح القوانين، رسالة حول العميان، والجزء الأول من التاريخ الطبيعي، والمجلد الأول من الموسوعة، ومقالة عن الاحساسات مما يسمح بأن نكون فكرة عن الطريقة التي تستطيع القراءة أن تبدل العقليات خلال بضع سنوات.
ارسال التعليق