طارق راشد
◄يعد الذكاء البشري أحد أكثر الموضوعات العلمية إثارة للجدل، ولاسيما في ما يتعلق بما إذا كانت التفاوتات في هذا الذكاء هي نتيجة الطبيعة أم التنشئة، ومدى هذه التفاوتات بين الذكور والإناث. فالألغام التي يشتمل عليها هذا الحقل يمكنها أن تنسف سلكاً مهنياً بأكمله، وذلك مثلما اكتشف لاري سومرز في 2005 عندما تحدّث عن الفرضية القائلة بأنّ الكفاءة الرياضية المطلوبة للفيزياء والهندسة، وكذلك للرياضيات نفسها، هي بشكل فطري أشد ندرة في النساء منها في الرجال. وقد استقال سومرز من منصبه كرئيس لجامعة هارفارد بعد ذلك بفترة قصيرة.
ومن ثمّ فهي جرأة من جوناثان واي، ومارثا بوتالاز، وماثيو ماكيل، الباحثين في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا الأمريكية، أن يدخلوا في خضم هذه المعمعة بورقة بحثية تتصدّى لكلتا المسألتين. ويصف الباحثون في هذه الورقة البحثية، التي نُشرت من قريب في مجلة (الإتجاهات الحالية في العلوم النفسية)، كيف محّصوا نحو ثلاثة عقود من الإختبارات الموحّدة قياسياً التي خضع لها طلاب المرحلة الثانوية في الولايات المتحدة لمعرفة ما كان يجري لألمع العقول في البلاد.
انتهى الفريق إلى إستنتاجين: أحدهما أنّ ظاهرة تسمّى تأثير فلين (وهو التأثير الذي يرجح كفّة "التنشئة" من كفتي الميزان، لأنّه يصف كيف ظلت نقاط حاصل الذكاء بوجه عام ترتفع على مرّ العقود) تنطبق على وجه التحديد على أذكى الأذكياء. وأمّا الآخر، فهو أنّ جزءاً من الفارق التاريخي – وليس كل هذا الفارق – بين الرجال والنساء الأشد ذكاء قد تلاشى.
استمدّ الباحثون الثلاثة بياناتهم من برنامج التعرُّف على المواهب التابع لجامعة ديوك، وهو برنامج مصمم للبحث في وقت مبكر عن المتقدمين ذوي مستوى الذكاء المتميز، حيث حلَّ المشاركون كافة ضمن الفئة العليا البالغة 5 في المئة من القدرة عندما خاضوا إمتحانات مصممة لطلاب أكبر منهم سناً بكثير. ويعتمد برنامج التعرُّف على المواهب، بدوره، على ثلاثة إمتحانات وطنية، وهي: SAT وexplore وACT. وعلى الجملة، درس الدكتور واي والدكتورة بوتالاز والدكتور ماكيل بيانات مستمدة من 7ر1 مليون طفل تغطي السنوات الواقعة بين 1981 و2010.
في ما بين عامة السكان، معروف جيداً أنّ أداء الفتيان أفضل قليلاً من الفتيات في الرياضيات. أمّا الفتيات بدورهنّ، فيتفوّقن على الفتيات في إختبارات المنطق اللفظي. والنتيجة هي الحصول على نقاط حاصل ذكاء إجمالية متماثلة. لكن هذه المساواة لا مكان لها في ما بين أفضل العقول الرياضية الشابة. فهنا نجد الفتيان يحققون أداء أفضل كثيراً في الرياضيات من الفتيات، لكن الباحثين اكتشفوا أنّ مستوى أدائهم الأفضل هذا أقل مما كان عليه من قبل.
في مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كانت نسبة الذكور إلى الإناث في الشريحة العليا البالغة 01ر0 في المائة من نقاط الرياضيات في إختبار SAT تبلغ نحو 13 إلى 1. وبحلول مطلع عقد التسعينيات من القرن نفسه، انخفضت هذه النسبة لتصبح 4 إلى 1، لكنها بعدئذ ظلت ثابتة دون تغير. ويُظهر الإختباران الآخران – وكلاهما متأخر في تاريخه عن الفترة التي يُظهر فيها إختبار SAT تلك التغيرات الهائلة – نسبتين أقل ميلاً بين الجنسين تتراوحان بين 2 و3 إلى 1. لكن أياً من هذين الإختبارين لا يُظهر أنّ الفتيات حققن تقدماً كبيراً في الأزمنة الأخيرة نحو التساوي مع الفتيان.
- تنشئة الموهبة
هذه الدراسة ليست كاملة كل الكمال، حيث تعتمد نتيجتها الأشد لفتاً للإنتباه على بيانات مستمدة من إختبار واحد فقط قامت ببحثه من بين مجموعات الإختبارات الثلاث، كما أنّ أحجام عيناتها هي بالضرورة صغيرة، لكنها تتوافق مع النتائج التي توصّل إليها إستقصاء أقدم كثيراً أُجري في سنة 1983 على يد مجموعة من الباحثين في جامعة جونز هوبكنز، واكتشف أيضاً نسبة للذكور إلى الإناث تبلغ 13 إلى 1 بين ألمع الرياضيين والرياضيات الشباب.
ليس من الواضح إذن لماذا تلا هذا الإرتفاع الدراماتيكي في كفاءة المع الرياضيات الشابات في الولايات المتحدة عقدان من الجمود، ولا يقدم الباحثون – لعدم خبرتهم في إزالة الألغام – أي فرضية في هذا الشأن. ومن الواضح أنّ هذا الإرتفاع ذاته لابدّ أن يكون مردّه إلى "تنشئة" من نوع ما – فربّما حدث تغيُّر في مواقف المعلمين تجاه الفتيات اللائي يبدين إهتماماً بالرياضيات – لكن الجمود الذي تلا ذلك يمكن أن يكون مردّه إلى أيّ من التفسيرين. وهناك حجة منطقية تصبّ في مصلحة "التنشئة"، وهي الحجة التي طرحها الدكتور سيمون بارون كوهين، أستاذ علم النفس في جامعة كولومبيا، وتقيم صلة بين أنماط الفكر الممنهِجة المتطرفة التي تصنع رياضياً جيداً وبين رجحان جانب الذكور بين المصابين بمتلازمة أسبرجر، وهي صورة من صور مرض التوحُّد لا تلحق ضرراً بذكاء الشخص العام. لكن من الممكن تماماً، وبالدرجة نفسها، أن يكون التفاوت نتيجة إختلاف ما لم يتضح بعد بين طرق تنشئة الفتيات والفتيان.
- السمات الأساسية:
إنّ مثل هذه التأثيرات البيئية التي لم يسلّط عليها الضوء بعد، يمكن أن تكون لها آثار فعلية على حاصل الذكاء يتبين بشكل بليغ من خلال تأثير فلين. فهذه الظاهرة – التي لفت جيمس فلين، الأستاذ بجامعة أوتاجا في نيوزلندا، إليها أنظار العالم في ثمانينيات القرن الماضي – مفادها أنّ متوسط حواصل الذكاء حول العالم ظلت تشهد إرتفاعاً بمعدل 3ر0 نقطة سنوياً على مدى العقود الثمانية الماضية. وبإستخدام بيانات برنامج التعرُّف على المواهب، أثبت الدكتور واي وزميلاه أنّ هذا يصدق بالتمام على الصغار الأعظم ذكاء في المجتمع الأمريكي مثلما يصدق على الصغار الأقل ذكاء، ما يشير إلى أنّه حتى هؤلاء الأقل ذكاء يمكن النهوض بمستوى قدراتهم بواسطة سبب تأثر فلين أياً ما كان كنهه. ومن جديد، يبدو أنّ التغيرات تكمن بالدرجة الأُولى في الرياضيات. فالنقاط المحرزة في قدرات المنطق اللفظي والقراءة لدى أعظم الأطفال ذكاء لا تُظهر أي إتجاه واضح، لكن الإختبارات الوطنية الثلاثة كلها تُظهر تحسُّنات مستدامة في قدرتهم الرياضية على مرّ العقود الثلاثة الماضية.
لا أحد يعرف ما سبب تأثير فلين. وتتعدد النظريات، بداية من مستوى التغذية الأفضل، من خلال توافر بيئة عامة أكثر تحفيزاً (بفضل تطور وسائل مثل التلفزيون والمذياع والإنترنت والألعاب الإلكترونية)، وانتهاء بالإنهاء التدريجي لإستخدام الرصاص في البنزين والدهانات. الشيء الواضح أنّ هذا السبب لا يمكن أن يكون تغيُّراً حدث في قدرة وراثية، وهذه القدرة هي ما يعنيه معظم الناس بكلمة "الطبيعة" في هذا النقاش؛ لأن ما مضى أجيال قليلة جداً لا تكفي لأن يكون للإنتخاب الطبيعي أي أثر ذي معنى.►
ارسال التعليق