كثيراً ما أقلّب صفحات المنتديات والمواقع الإلكترونية التي يكتب فيها الكثير من الناس وينقلون تجاربهم وقصصهم، بل هناك الكثير من الأشخاص الذين يقومون بنقل كُتُب كاملة ويعيدون طباعتها على صفحات تلك المواقع، ولأوّل مرة أتساءل بيني وبين نفسي: ما الذي يجعل أُمّاً مشغولة بأمور المنزل تتفرغ بعض الوقت أثناء يومها لتنقل لنا تجربة مرت بها أو تحذرنا من ظاهرة معينة، أو حتى تنقل لنا وصفة لطبق أعدته وأحبه من حولها؟ أو ما الذي يدفع طالبة في المدرسة ولها وقت محدد للدراسة تقوم بطباعة أسئلة كاملة لمادة معينة ليستفيد منها باقي الطلبة؟ أو ما الذي يدفع بطالب علم أن ينقل لنا صفحات من كتاب مفيد ويقوم بطباعته لساعات طويلة ليقرأه مَن يقرؤه؟ أو أن يقوم مسافر بعرض نصائحه عن الدولة التي زارها بالتفصيل؛ ليجنبنا بعض السلبيات التي قد نقع فيها أثناء سفرنا لهذه الدولة.
أمثلة كثيرة لأشخاص أحبوا العطاء دون مقابل، بل أعطوا تحت مسميات مجهولة ولأشخاص مجهولين، وهذا عندي قمة العطاء "لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
هل العطاء طبع في النفس، أم هو عادة نستطيع أن نكتسبها، أم مبدأ تربوي نعلمه للأبناء؟ أسئلة كثيرة علينا أن نناقشها معاً خلال السطور القليلة التالية:
- لماذا نعطي؟
للعطاء أشكال ووسائل كثيرة ودرجات مختلفة، ليس فقط ما تحدثنا عنه في بداية مقالنا، ولكن إجابة: "لماذا نعطي؟" لا يعرفها إلّا مَن تذوّق نعمة حبّ العطاء في حدوده المعقولة.
العطاء راحة داخلية نشعر بها عندما نرى البسمة أو نتخيلها على وجوه الآخرين، كما أنّه هدوء يعم جوانب النفس عندما نشعر أنّنا قدّمنا الإفادة لواحد من بني البشر، وأنّنا قدمنا جزءاً مما وهبه الله لنا، سواء من مال أو علم أو وقت أو مساندة نفسية لإخواننا في هذا العالم الشاسع.
ليس بالضرورة أن يكون العطاء عملاً كبيراً أو مباشراً لشخص معيّن، بل أحياناً ما يكون العطاء عملاً بسيطاً يشمل مجموعة من البشر، كأن يهتم الموظف بمكان عمله ويهيِّئ بيئة العمل سواء المادّية أو النفسية ليعمل الجميع بصورة تغلّفها المحبة والانسجام، أو أن يهتم الطالب بنظافة الفصل وحُسن ترتيبه أو إصلاح بعضٍ التلف الموجود فيه.
للعطاء معنى واسع؛ فليس بالضرورة أن نعمل كمتطوعين في جمعيات معيّنة لنتصف بالعطاء، بل معنى العطاء يدخل ضمنه الاهتمام ببعض الأقارب كبار السن، وغير الأقرباء كالتحدث معهم أو القراءة لهم أو اصطحابهم للمراجعة في المستشفيات، الأطفال مجال خصب للعطاء، فأنت تستطيع أن تغيّر حياة إنسان بأن تهتم به منذ صغره، سواء أن تكفله أو تعلّمه أو تدرّبه على أن يعيش الحياة بأسلوب راقٍ وإيجابي، العطاء قد يكون إعطاء أمل لنفس يائسة، أو نصيحة لنفس شاردة، أو معلومة لمن يبحث عنها، أو سعادة نزرعها في نفس حزينة، أو اهتمام بموارد هذا العالم والحفاظ عليها، وغيرها الكثير من الأمثلة.
الموضوع الجديد الذي لفت انتباهي ما يسمى بالعطاء الإلكتروني، فتستطيع التبرع عبر الشبكة العنكبوتية خلال المواقع الآمنة مادّياً وعلمياً، بل أصبح هناك عطاء علمي عن طريق مجموعات تهتم بالتخلص من النفايات الإلكترونية وتحويلها إلى مواد صالحة الاستخدام.
- حبّ العطاء في الإسلام:
إسلامنا علَّمنا العطاء بأفضل وأرقى صوَره، كتكافل اجتماعي، أو زكاة، أو صدقات، أو وقف، أو هبات، وحسن معاملة، ومشاركة في فرح، ومواساة في حزن "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً"، وقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وأيضاً قوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
ورغّب الله ورسوله في العطاء فأجزل الثواب لمن يعطي، قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة/ 245).
وقد حثّ النبيّ (ص) على الصدقة ولو بالقليل، ووعد بالأجر الجزيل للمتصدقين، فقال (ص): "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
وقال (ص): "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلّا ظله..." وذكر منهم: "رجلاً تصدق بصدقة فأخفاهم حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
وقوله عزّوجلّ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-134).
وفي حديثه (ص) ترغيب في العطاء مهما صغر: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلّا الطيب – إلّا أخذها الرحمن بيمينه – وإن كانت تمرة – فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله".
وقال (ص): "وإنّ أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً".
وقوله (ص): "ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللّهمّ اعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللّهمّ اعطِ ممسكاً تلفاً".
ولكن لنتذكر (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286)، فالذي عنده سعة وقدرة وطاقة وأسباب وآلات يُكلَّف، وإذا فُقدت الأسباب والآلات، فلا يُكلَّف؛ لأنّ الله – سبحانه وتعالى – لا يكلّف إلّا المستطيع..
- كيف نعلم أبناءنا حبّ العطاء؟
عندما تكثر كلمات الأخذ والطلب مثل: "أحب"، و"أريد"، و"أرغب"، قد يكون الوقت قد حان لأن نجلس مع الصغار ونعلّمهم معنى العطاء في الحدود التي لا ترهق النفس، فالطفل الذي يحبّ أن يأخذ دائماً. هو طفل محجوز في منطقة الشعور بالسعادة عندما يأخذ فقط، وهي إلى حد ما منطقة محببة لكلّ شخص منا، فكلّنا نحبّ أن نشعر بأنّ هناك مَن يهتم بأمرنا ويقدم لنا ما نحبّ، ولكنّنا كآباء من مسؤولياتنا أن نبدأ بالدخول معهم لمناطق مختلفة، تشعرهم أيضاً بالسعادة وتملؤهم بالثقة والرضا والمشاعر الإيجابية التي تمتد معهم لمراحل متقدمة من العمر، بل سيتعلّم الطفل تحمّل المسؤولية سواء تجاه أُسرته أو مجتمعه أو أُمّته أو عالمه.
- خطوات نحو العطاء:
1- هناك نقطة مهمة يجب أن نلتفت لها، وهي أنّ الطفل الذي يأخذ دائماً هو نفسه الأب والأخ والموظف الأناني الذي يستهلك من حوله دون أن يقدم أي شيء لهم، سواء مما يملك أو من عواطفه.
2- القدوة أمر مهم، كما هي عادة في كلّ الأمور الحياتية التي نريد أن يتعلّمها الطفل، فهي تنقل الموضوع من كونه موضوعاً نظرياً إلى مرحلة التطبيق العملي الذي يعيشه الطفل من حوله، فإذا رأى الطفل مَن حوله يعطون من وقتهم وأموالهم وعواطفهم ويشعرون بالسعادة من هذا الفعل؛ سينشأ وهو يقدّر ويمارس هذا العطاء.
3- التشجيع دائماً مرحلة تأتي بعد القدوة، والتشجيع يأتي عن طريق إيجاد الفرصة لممارسة العطاء والمساعدة في استغلال تلك الفرصة؛ عن طريق توفير البيئة المناسبة التي يستطيع الابن أن يمارس فيها البذل والعطاء ومساعدة الغير، سواء في المدرسة أو الجامعة أو في المجتمع والأُسرة.
4- يجب أن يتناسب تدريب الطفل دائماً مع عمره وإمكاناته، ولهذا علينا أن ندعه يختار الكيفية التي يريد أن يعطي بها ومَن سيعطي، ثمّ نشجعه ونسانده وهو بالتالي سيشعر بالثقة بمجرد وجودنا حوله وتشجيعنا له.
5- تشجيع الطفل لمساعدة الفقراء والمحتاجين بصور مختلفة ستجعله يشعر بمَن هم أقل منه معيشة، ويشعر بمسؤوليته تجاههم، وأنّه يستطيع أن يضع بصمته على حياة أشخاص آخرين، وأنّ باستطاعته أن يغيّر من حياة إنسان للأفضل.
الطرق كثيرة تلك التي نستطيع بواسطتها أن نعلّم الصغار العطاء، من لعبة صغيرة يتنازل عن حبه لها ويقدمها لغيره إلى مبلغ من المال يضعه في مكان يحب أن يعطي فيه.
الكاتب: تيسير الزايد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق