• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الشعائر الحسينية في بعدها الاجتماعي

عمار كاظم

الشعائر الحسينية في بعدها الاجتماعي

يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحجّ/ 32). الشعائر هي العلامات التي يقوّي الإنسان إيمانه بإقامتها ويرسّخ تقواه بتعظيمها لمّا تذكره وتدلّه إلى سبيل رضوان الله تعالى. والشعائر الحسينية من أهمّ شعائر الله تعالى التي ينبغي إحياءها وتعظيمها، وبشكلٍ جماعي فمثلها كمثل إقامة صلاة الجماعة أو الاستسقاء أو أداء مناسك الحجّ أو غيرها من العبادات التي تقام جماعةً. يؤكِّد القرآن الكريم أنّ إحياء الشعائر وتعظيمها ونشرها من أهمّ السُّبل التي تؤدِّي بالإنسان إلى اكتساب الحصانة الثقافية والروحية الكاملة في مواجهة أعتى التحدّيات الفردية والعامّة، وممّا ينبغي الإلفات إليه أنّ تعظيم الشعائر لا يعني مجرّد إقامة هذه المناسبات الدينية بطريقة طقسية فارغة من المحتوى، بل ضرورة إحيائها بما يلامس الواقع الذي نعيشه وضرورة ترجمة مفاهيمها وتسييلها بحيث تترك هذه الإحياءات أثرها البالغ والتغيير الكبير على الشخصية الإنسانية. تمثِّل الشعائر الحسينية أحد أهم روافد استمرار الارتباط البشري بقضية أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي القضية الحسينية التي أبكتهم دماء وأسالت على التاريخ أنهار الدموع، فالشعائر تسلّط الضوء على حقيقة الصراع الأبدي بين الحقّ والباطل. بل وتشكّل الشعائر الحسينية هوية الأُمّة وتعطيها ذلك الانتماء الحقيقي لمدرسة الإسلام الناصعة، لذلك فإنّ الشعائر الحسينية هي امتداد لذلك النضال الذي سار عليه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

لقد تمّ إحياء هذه المناسبة منذ استشهاد سيِّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) إلى يومنا هذا ألفاً وعدّة مئات من المرّات، وفي كلّ مرّة يستلهم محبّو الإمام قيماً ومفاهيم جديدة من خلال مدرسة عاشوراء الخالدة. لقد بقي نور هذه الملحمة العظيمة مضيئاً عبر العصور، فترى المؤمنين يتزوّدون من فيضها الغنيّ لدنياهم وأخراهم. إنّ ذكرى عاشوراء مرّت بمسيرة طويلة من التحوّلات، والتضحيات التي قدّمها الأسلاف والوالهون بسيِّد الشهداء (عليه السلام) حتى وصلت إلينا هذه المدرسة العاشورائية المناهضة للظلم، العريقة بأهدافها المقدّسة. إنّ لمواكب العزاء الحسينية وتلك الشعائر منزلة رفيعة ومقاماً سامياً جعلت العلماء يفخرون بالمشاركة فيها أيّما افتخار. إنّ مقيمي المآتم الحسينية إنّما يعزّون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المجال: «يعزّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرعهم ـ أي الحسين وأهل بيته ـ ولو كان ـ أي رسول الله ـ في الدُّنيا يومئذ حيّاً لكان صلوات الله عليه وآله هو المعزّى بهم». في الواقع، إنّ جلّ ما نملك من مُثُل وقيم هو من بركات تضحيات سيِّد الشهداء. فذكرى عاشوراء هي التي غرست في أعماقنا العبودية لله عزّوجلّ، ومبادئ الإنسانية، والإيثار وخدمة الآخرين، والعطف على الضعفاء، والدفاع عن المظلومين، ولأجل هذا كلّه يجب أن نحافظ على جذوة ملحمة عاشوراء متّقدة على الدوام، وأن نبذل مهجنا دونها، لنضمن الرفعة والشموخ لنا وللأجيال من بعدنا.

والشعائر الحسينية بكافّة أشكالها وجميع أنواعها هي شعارات حضارية راقية، وإذا قسناها إلى بقية الشعائر الموجودة لدى غير المسلمين اليوم لرأيناها هي أرقى الشعائر التي يمتلكها أصحاب الأديان والمبادئ الأُخرى، وعليه: فينبغي لكلّ مسلم حسيني غيور أن يقيم الشعائر الحسينية بكلّ أقسامها وذلك بفخر واعتزاز، وشرف وكرامة، وقربة وإخلاص، حتى يكون النفع والفائدة أكثر، والتبليغ والهداية أكبر. وإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الشعائر الحسينية هي إظهار للمودّة والمحبّة والتعاطف مع مواقف أهل البيت (عليهم السلام) وصمودهم ودفاعهم عن الدِّين والمبادئ الإسلامية ضد الظالمين، بل قد ورد في الأدلة المتضافرة حثّهم (عليهم السلام) على إقامة الشعائر وإحياء أمرهم، حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام): «احيوا أمرنا رَحِم الله مَن أحيى أمرنا»، وكما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا»، وكما ورد عن الإمام المهدي (عليه السلام): «لأبكينّ عليك بدل الدموع دماً... حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتآب».

إنّ لإحياء الشعائر الحسينية تأثيرات كبيرة جدّاً على كافّة المستويات الإنسانية سيّما ما يرتبط منها بالشأن العامّ وإصلاح المجتمعات وبناء الدول العادلة وتصحيح مسارات الأُمم نظراً لما تحمله هذه الإحياءات من مخزون ثقافي وفكري وإنساني ترتبط بأهمّ المشكلات التي تعاني منها البشرية اليوم، وما تستطيع أن توفّره من قدرة على التغيير ورفض الواقع وهو ما لا يمكن أن تجده في أيّ مدرسةٍ أُخرى.

ومن هذه الشعائر نتعلّم تحويل القلّة إلى كتلة مؤثّرة كما في قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة/ 249). فهذه المجالس تعلّمنا أنّ القلّة ليست ضعفاً، وأنّ القدرة ليست قدراً ينبغي التسليم له، فقد استطاع الحسين (عليه السلام) وأصحابه في اللحظة التي اعتبرها الجميع أنّها لحظة ضعفه ونهايته أن يحوّلها إلى أكبر عنصر قوّة، وإلى محطّة تستطيع أن تدبّ الروح والحياة في كافّة حركات ومشاريع التحرّر- ولكافّة شعوب الأرض - إلى يوم القيامة.

ارسال التعليق

Top