المجتمع الإسلامي هو مجتمع الرحمة والتعاطف والتقارب بين أفراده، ومختلف أفراد بني البشر، بعيداً عن اللون، أو اللغة، أو العرق، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). ويُشبه الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) المجتمع بالجسد الواحد، ليعلِّم أبناء المجتمع الإسلامي مبدأ التعاون، ويثبت في نفوسهم مبادىء الأخوة، والمحبّة، والتضحية، رُوي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «مَثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى». وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه».
القرآن الكریم يريد بناء مجتمع إنساني يتعايش فيه الناس في ظلّ الإيمان والتقوى، وما يعنيه الإيمان والتقوى هو العمل بما جاء في كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الاستقامة السلوكية. مجتمع يقوم على أساس العلم والعمل الصالح، ويبني حياته على أساس الحقّ والعدل واحترام إنسانية الإنسان، ويتعاون فيه الناس على البرّ والتقوى، ويشعر الجميع بمسؤوليته تجاهه، مجتمع يقوم على أساس الأخلاق والقانون. هذا ما يريده القرآن، وهو الذي خاطب الناس به وأمرهم بالاستجابة له، لينقذ الإنسان ويخرجه من ظلمات الظلم والفساد والخوف والجهل، ذلك ما نقرأه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال/ 24). إنّ القرآن الكريم يريد أن يبني حياة إنسانية سعيدة يُفاض عليها الخير والبركة من كلّ جانب.
إنّ الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل مَن بنى هذا المجتمع القرآني في المدينة المنوّرة ووضع أُسسه وقواعده، كما بنى الدولة والحياة الإنسانية على أُسس الرسالة الإسلامية. عندما انطلقت الدعوة الإسلامية في المدينة، وأصبحت المدينة الركيزة الأساسية للمسلمين، جاء المهاجرون من مكّة، ولم يكونوا يملكون مالاً ولا ثياباً ولا سكناً، فأضحوا بذلك في موقعهم الجديد محتاجين، فكيف واجههم الأنصار في المدينة؟ إنّ الله يحدّثنا عن ذلك، فيقول للفقراء المهاجرين: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8). كانت قلوبهم مفتوحة لكلّ المهاجرين إليهم، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (الحج/ 40)، كانوا يحبّونهم، وشعورهم نحوهم ليس مجرّد شعور الإنسان عندما يلتقي بإنسان من خلال انتمائه، ولكنّه شعور الإنسان الذي يحبّ كلّ إنسان آمن باللهِ وجاهد في سبيله. لهذا، كانت المحبّة هي الشعور الغالب لكلّ هؤلاء الذين تبوأوا الدار والإيمان، لأنّهم يشعرون بأنّ علاقة الإيمان تفوق علاقة المحبّة.
الإسلام يركّز على العلاقة التي تجعل الإنسان يعيش الشعور بالآخرين من المؤمنين، كما يشعر بنفسه، والمسألة تحتاج إلى تربية، ومعاناة، وجهاد نفس، ووعي للإسلام. وهكذا، استطاع ذلك المجتمع المسلم الصغير، بالرغم من وجود نقاط الضعف والمشاكل فيه، أن يشكّل قوّة (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) (الفتح/ 29)، وهذه صفة أُخرى من المواصفات التي أودعها الله في المؤمنين، بأنّهم يقفون بقوّة أمام مجتمع الكفر والظلم الذي يحاول قهر المجتمعات الأُخرى، ولأجل ذلك، يستنفرون كلّ عناصر القوّة، وكلّ عناصر الشدّة، وكلّ عناصر العنف، في مواجهة الذين يريدون أن يفرضوا عليهم سيطرتهم من مواقع الشدّة والقوّة، ليكونوا الأقوياء في هذا المجال، لأنّ القرآن كان يحشد القوّة في نفوسهم، ويحشد الشدّة في كلّ مواقفهم: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران/ 139-140)، وهذا ما نحتاج إلى أن نعيشه إلى جانب أن نكون الرحماء فيما بيننا، أن نكون الأشداء على كلّ الذين يريدون أن يحاربونا في ديننا، أو في حرّيتنا، أو في عزّتنا، أو في كلّ مواقع العدالة في مجتمعنا، فلا نستسلم لهم، ولا نضعف أمامهم، ولا نسترخي عندما يواجهوننا بالتحديات. فالمؤمن لا يضعف أمام أيّ انكسار، وأمام أيّة هزيمة، لأنّ المؤمن يبقى مع الله تعالى، ويستمدّ القوّة منه عزّوجلّ، ويعرف: (أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً) (البقرة/ 165)، ويقول كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أشدِّ ساعات الضيِّق: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق