• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرفق زينةٌ.. في التوعية والصحبة والمعيشة

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

الرفق زينةٌ.. في التوعية والصحبة والمعيشة
◄مفهوما الرفق والعنف:

هناك بعض المفاهيم الحركية الأخلاقية في الجانبين السلبي والإيجابي تتسع لأكثر من موقع في حياة الإنسان، ومن هذه المفاهيم "الرفق" و"العنف".

فقد اعتاد الناس أن يتحدثوا عن هذين المفهومين في الأسلوب العملي للدعوة، وفي الأسلوب العملي في مواجهة المشاكل التي تحدث بين الناس.

وعلى ضوء ذلك، تقف الآية التالية، لتحدّد أسلوب الرفق الذي يحوّل العدوّ إلى صديق، في مقابل أسلوب العنف الذي يفقد فيه الإنسان صديقه، وربما يحوّله إلى عدوّ، وذلك في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34)، ولكننا عندما ندخل في تراث أهل البيت (ع) مما نقلوه عن النبي (ص) ومما استلهموه من كتاب الله وسنّة رسوله، نجد أنّ مسألة الرفق والعنف لديهم من المسائل التي تتسع لطريقة الإنسان في التعامل مع الإنسان الآخر.

 

الرفق في التوعية:

ففي جانب التوعية – مثلاً – عندما يكون إنسان في المرتبة العليا من الثقافة ويكون إنسان آخر أقل مرتبة منه، فإنّ الكبرياء العلمي قد يدفع الأوّل ليسقط الثاني في نظرته إليه وفي تعامله معه، ويبتعد عن محاولة النزول إلى مستواه من حيث الأسلوب والتعامل.

هنا نجد الإمام الصادق (ع) في بعض كلماته يعالج هذه الظاهرة، فيقول وهو يخاطب بعض أصحابه: "فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك". فهذه الظاهرة تمثل عدوى اجتماعية، لأنّ العرف الاجتماعي يتحرك بين الناس ليسقط الأعلى الأدنى في حين أنّه ليس هناك (أعلى) بالمطلق، فهو إذا كان شخصاً أعلى من شخص آخر، فإنّه – في الوقت نفسه – أسفل من شخص آخر أيضاً، ذلك لأنّ الثقافة نسبية.

فإذا كنت تسقط من هو دونك على أساس أنك أعلى منه، فسوف يسقطك من هو فوقك على نفس الأساس، ثمّ يوجّه الإمام الصادق (ع) الإنسان الذي هو بهذه المرتبة كيف يتعامل مع الإنسان الذي هو أقل منه مرتبة في مسألة التوعية والهداية والتوجيه، فيقول: "إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق" لاحظوا أنّ الإمام استعمل كلمة (برفق) أي أن تعمل على أساس أن تدرس عقله فتعطيه من عقلك بما يتناسب مع وعي عقله، وأن تدرس ثقافته فتعطيه من ثقافتك الأسلوب الذي يمكنه أن يستوعب هذه الثقافة، فلا تفقد نفسك أمامه، ولا تفقد مستواك معه، ولكن حاول أن تتعامل مع تعامل الإنسان الذي يريد أن يصعد بالإنسان الآخر إلى مستواه برفق وأناةٍ وعطفٍ وحنان، فكلمة "الرفق" تختزن في داخلها معنى هذا العطف الإنساني الذي ينفتح فيه إنسان على إنسان.

ويقول الإمام مضيقاً "ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره" فلا تتكلم معه لغة لا يفهمها، ولا تحاول أن تثير معه المطالب التي لا يستطيع أن يعيها، لأنك إذا حمّلته ما لا يطيق، فستهدم وعيه، وستشعره بالإحباط وأنّه في موقع اليائس الذي يفقد الثقة بنفسه "فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره" فأنت تتحمل مسؤولية النتائج السلبية الناجمة عن هذا الأسلوب الذي استعملته معه.

 

الرفق بالحيوان:

وهكذا نجد أنّ الحديث عن النبي (ص) يتجه إلى أن يكون الإنسانُ رفيقاً حتى بالحيوان، بحيث أنك عندما تتعامل مع الحيوان، فإن عليك أن تدرس حاجاته وطاقته، لتعطيه ما يحتاج ولتتعامل معه بحجم طاقته.

ففي الحديث عن النبي (ص): "إنّ الله يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدوّاب العجاف "الهزيلة" فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجُ عنها لأنّ الحيوان لا يستفيد منها شيئاً – وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها – حتى تأكل منها وتستمتع بها –".

فإذا كان النبيّ (ص) يتحدث في هذا الحديث عن إنزال الحيوان وإراحته وجعله يتجدّد في نشاطه بأن ينزل في الأرض الخصبة حتى يأكل منها ويكتفي فإننا نستوحي من ذلك أنّ الله يريد منا الرفق بالحيوان، فلا يجوز لنا أن نحمّله أكثر مما يتحمل، ولا يجوز لنا أن نضربه من دون حاجة إلّا في الحالات الإضطرارية، وعلينا أن نعامل الحيوان كمخلوق ذي روح وكمخلوق يتألم ويحزن ويفرح ويرتاح ويتعب.

وفي بعض سيرة الإمام عليّ بن الحسين (ع) أنّه كان راكباً على ناقته فامتنعت عليه، فأهوى عليها بالسوط ليضربها، ثمّ قال (آه.. لولا القصاص) فكأنّه يعتبر أنّه إذا ضرب الناقة في غير حاجة، فإنّ الله سيقتص منه.

 

الرفق بالرفيق:

ونجد كذلك أحاديث أخرى عن النبيّ (ص) تتحدث في قضية المتصاحبين في الطريق، فقد يخدم أحدهما الآخر، فبحسب هذا الحديث يقول النبي (ص) "ما اصطحب اثنان إلّا كان أعظمهما أجراً وأحبُّها إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه" فالإنسان الذي يرفق بصاحبه لا يتعسّف في تعامله معه، ولا يحاول أن يلقى كلّه عليه، بل يبادر إلى أن يخفف عنه بخدمته ورعايته له، فيكون بذلك الأعظم أجراً والأكثر حبّاً من الله.

 

الرفق بين الزوجين:

وإذا كان النبي (ص) يتحدث عن الصاحبين فقد نستطيع أن نجعل القضية تمتد إلى الزوجين، فأيّة صحبة أكثر من صحبة الزوجين لبعضهما، فهذا الحديث يوحي بأنّ الزوج والزوجة عندما يعيشان في البيت فإن اعظمهما أجراً عند الله أرفقهما بصاحبه، وإنّ احبّهما إلى الله ارفقهما بصاحبه.

فعلى الأزواج الذين يعتبرون أنفسهم في الموقع الذي يجب فيه على الزوجات أن يتعبن ليرتاحوا وأن يتألمن ليسرّوا، وأن يسهرن ليناموا، بحيث يرى الزوج أن ذلك من واجبات زوجته، فقد يحصل على بعض الراحة والسرور والطمأنينة، لكنه يخسر من الأجر الكثير عند الله تعالى، ويخسر الكثير من حب الله إذا كان زوجته أرفق به.

ولذلك، فإذا رأى الزوج أن زوجته ترفق به، فإنّ عليه أن يبادلها رفقاً برفق ورعاية برعاية ومحبة بمحبة حتى ينطلقا معاً ليكون كلٌّ منهما رفيقاً بصاحبه على محبة الله وعلى أمل الأجر منه.

وهناك حديث عن أبي الحسن موسى (ع) قال لبعض أصحابه وقد دار بين هذا الرجل وبين أشخاص آخرين نزاع عُنفَ فيه هذا الرجل. فقال: "ارفق بهم" فهؤلاء يملكون طبعاً حاداً وأسلوباً سيئاً بحيث قد يكفرون في حالة الغضب وقد يبتعدون عن الخط، فإذا أردت أن تتعامل معهم وأن تتحاور معهم "فارفق بهم، فإن كفر أحدهم في غضبه، ولا خير فيمن كان كفرهُ في غضبه" فإنّ الغضب يخرجك عن طورك وعن خطّك وإيمانك، لأنّك إذا فعلت ذلك كنت مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين كفرهم في غضبهم.

 

الخط العام للرفق:

وتنطلق الأحاديث بعد ذلك لتتحدث عن الخطّ العام للرفق كقيمة إسلامية رائعة تجعل الإنسان قريباً إلى الله وإلى الناس، فعن الصادق (ع): "من كان رفيقاً في أمره، نال ما يريد من الناس" وعن النبي (ص): "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلّا زانه ولا نزع عن شيء إلّا شانه" ويقول (ص): "إنّ في الرفق الزيادة والبركة ومن يحرم الرفق يحرم الخير" فإذا كان الرفق في عقلك وقلبك وحياتك وأسلوبك مع الآخرين، فإنّه يعطيك الخير كله في الدنيا والآخرة.

وهكذا نجد أنّ الإمام الصادق (ع) يتحدث عن الرفق في تقدير المعيشة، أي أن تكون رفيقاً في مصارفك واقتصادك فيما أعطاك الله من مال، حيث يقول: "أيّما أهلِ بيت أعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق" والرفق في تقدير المعيشة بأن تبذل ما أعطاك الله بقدر حاجاتك ولا تحاول أن تقفز فوقها لتسرف وتبذّر، فعقلية الرفق التي هي عقلية الاقتصاد خير من السعة في المال، إذ ما قيمة ما تبذره وتسرف فيه من دون أن يعطيك حاجاتك.

وفي نهاية المطاف "والرفق لا يعجز عنه شيء" لأنّ الرفق يدرس الأمور ويخطط لها ويعطي كل حاجة ما تريد "والتبذير لا يبقى معه شيء إنّ الله رفيق يحبُّ الرفق"، فإذا كان الله يحبُّ الرفق، وهو يحبُّ الذين يحبّون ما أحبّ ويعملون بما أحبّ، فهل لنا أن نعيش هذه القيمة الأخلاقية في أنفسنا وبيتنا ومع الناس الآخرين وفي أسلوبنا العملي والحركي مع الإنسان ومع الحيوان ومع الحياة، إننا بذلك نستطيع أن نصنع الإنسان الذي يعيش مع الإنسان الآخر بكل مسؤولية وبكل محبة وإنفتاح.►

 

المصدر: كتاب الندة (3)/ محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة

ارسال التعليق

Top