قال سبحانه وتعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً) (الإنسان/ 8-9).. فالعطاء هو أقرب الطُّرق إلى الجنّة، ولذا، عندما جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل له: أيّ الناس أفضلهم إيماناً؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أبسطهم كفّاً»، وقال: «أحبّ الناس إلى الله عزّوجلّ، أسخاهم كفّاً». العطاء هو تعبير أمثل عن إنسانية الإنسان، فالإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً وهو أناني، يتحكّم به الاستئثار والجشع والبخل. وهو ضمانٌ لسلام المجتمع وأمنه، فلا يمكن لمجتمع أن ينعم بالطمأنينة والسلام، أو أن يحظى بالاستقرار، إلّا عندما يشعر أفراده بروح التعاطف والتراحم، ويمدّ كلّ واحد يده إلى الآخر، فالفقر هو مشروع تنازع وفتنة، وهو سبب لخراب المجتمع.
تميّز الإمام الحسن (عليه السلام) بصفة السَّخاء والكرم. ولهذه الصفة أهمّية بالغة، فقد جاء (عليه السلام) من أجل أن يعزِّز الإنسانية في النفوس، والكرم هو أجمل تعبير عنها. لقد كان هذا الإمام معطاءً سخيّاً على الفقراء والمساكين، وعلى كلّ مَن كان يعرف بحاجته، حتى وصف بكريم آل البيت (عليهم السلام). وعندما يوصف الإمام (عليه السلام) بهذا الوصف، فهذا لا يعني أنّ بقيّة أهل البيت لم يكونوا كرماء، فالكرم والبذل والعطاء كانت صفات لازمت كلّ أهل البيت (عليهم السلام). ولكنّ هذا التميّز بهذه الصفة، يعود إلى الظروف التي أملت على هذا الإمام كثرة هذا العطاء، فقد كان الواقع الاجتماعي صعباً في مرحلته، والناس في شدّة وضيق، وهي اقتضت منه أن يتحرّك ليسدّ، وبما استطاع، حاجات الناس ومتطلّباتهم. ومن المهم التذكيربأنّ الصفات والأفعال عند أهل البيت (عليهم السلام) لم تنطلق أبداً من اعتبارات شخصية عند هذا الإمام أو ذاك، بل ممّا كانت تمليه الظروف الموضوعية في مرحلة كلّ إمام. ومن هنا، نستطيع القول إنّ أيّ إمام لو كان مكان الإمام الآخر، لفعل ما فعله.
فقد ورد من سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) في العطاء والكرم، أنّه خرج من ماله مرّتين في حياته الشريفة، بمعنى أنّه بذل كلّ ماله للمحتاجين مرّتين، بحيث لم يبقَ عنده شيء حتى لحاجاته، وقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، أي قدَّم نصف ماله للفقراء والمحتاجين لثلاث مرّات، وقد أراد الإمام من هذه المقاسمة للمال، التأكيد أنّ هدف البذل هو الله وحده، لا أيّ هدف ذاتي أو مصلحي. وقد كان (عليه السلام) من صفاته، أن لا يردّ سائلاً يطرق بابه، وقد يكون السائل غير محقّ، أو في وقت لا يملك مالاً زائداً عن حاجته، ومع ذلك، كان يعطي حتى ولو كان على حسابه أو حساب عائلته. وقد سُئِل يوماً: لأيّ شيء نراك لا تردّ سائلاً وإن كنت على فاقة؟ فقال: «إنّ الله تعالى عوَّدني عادةً أن يفيض نِعَمه عليّ، وعوّدته أن أفيض نِعَمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة، أن يمنعني العادة»، وأنشد قائلاً:
إذا ما أتاني سائلٌ قلت: مرحباً*****بمن فضلُه فرضٌ عَلَيَّ معجَّلُ
وقد سمع (علیه السلام) يوماً وهو يطوف حول الكعبة، رجلاً إلى جانبه يدعو الله أن يرزقه مالاً، فلم ينتظر حتى انتهاء طوافه، فقام إلى منزله وبعث إليه المال، خشية أن ينزل الله العطاء على هذا الشخص من غيره. ورأى غلاماً يأكل من رغيفٍ لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمةً، أي كان يتقاسم الرغيف مع الكلب، فقال له: «ما حملك على هذا؟»، قال: إنّي استحي منه أن آكل ولا أطعمه. فقال له الإمام الحسن (علیه السلام): «لا تبرح مكانك حتى آتيك». فذهب إلى سيِّده، فاشتراه واشترى البستان الذي هو فيه، فأعتقه، وملّكه البستان. وقد أتاه رجل يطلب حاجة. ولننظر إلى مدى اهتمام الإمام الحسن (عليه السلام) بحفظ كرامة الفقراء وعدم الإساءة إليهم، وكان الإمام آنذاك بين الناس، فقال (عليه السلام) له: «اكتب حاجتك في رقعةٍ وارفعها إلينا»، وذلك حتى لا يشعره بذلّ الحاجة أمام الناس، ثمّ ضاعف الإمام طلبه مرّتين، وأعطاه بتواضع كبير، فقال له بعض الجالسين: ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا بن رسول الله!، فقال (عليه السلام): «بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً.. أما علمتم أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا من أعطيته بعد مسألة، فإنّما أعطيته بما بذل لك من وجهه». لقد عبَّر الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال سلوكه هذا، لا عن صفة خاصّة به، بل عن القيمة التي أراد الله أن تُبنى الحياة على أساسها، فالله يريد للناس أن يطبعوا حياتهم بالعطاء، وأن يتمثَّلوا بعطاءاته التي لا تعرف حدوداً في كلِّ هذا الكون الذي سخَّره.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق