الحبّ.. ويقابله الكره والبغض والحقد.. الحبّ عاطفة إنسانية غرسها الله سبحانه في الإنسان.. وغرسها في قلوب الطير وفي قلب كلِّ حيوان، فتلك المخلوقات تحبّ الحياة وتحبّ أبناءها وأزواجها وتحبّ جمال الطبيعة.. فبالحبِّ يقترب الأحباب، وتتمازج النفوس والأرواح، وتعمر القلوب بالسعادة والطمأنينة، وبالقُرب والتآلف والتعاون، وبالعفو والتسامح، وبالعطاء المتبادل، يشعر الناس بالحبِّ ولذّة الحياة.. فالمحبّ يريد الخير لِمَن يحبّه، ويعفو عنه إذا أخطأ، ويتعاون معه إذا احتاج أو عجز، ويدافع عنه ويحميه إذا هُدِّد بخطر..
وبالحبِّ يُضحِّي الإنسان ويؤثر على نفسه.. فبالحبِّ يعيش الحبيب في أعماق النفس.. ويستقرّ في شغاف القلب.. وبدافع الحبّ للخير والجمال يصنع الإنسان حياة الخير، ويحبّ كلّ جميل في هذه الحياة.. يحبّ الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، كما يحبّ الابتسامة الصادقة، والكلمة الطيِّبة، ونغمة الصوت الجميل، وبلاغة القول، وتناغم الحركة، وتآلف النور والألوان.
ولكلِّ هذه المعاني جاءت رسالات الأنبياء.. لذا نقرأ أجمل تعريف وتلخيص للعلاقة بين الدِّين والحبّ في الحديث الشريف: "وهل الدِّين إلّا الحبّ".
وعندما يغيب الحبّ تجتاح الكراهية أعماق النفوس، وتعيش القلوب حياة البؤس والشقاء، ويشعر فيها بعذاب الحياة.. فتستحيل تلك الحياة إلى جحيم ونفور وأزمات وصراع وعدوان.. قد يقود البعض إلى الفرار وحتى إلى الانتحار عندما يستحكم هذا المرض في النفوس..
ويتحدّث القرآن الكريم عن حبّ الله للخير.. وحبِّه للإنسان.. حبّ الله الذي يغمر القلوب بالسعادة والنور والانفتاح.. انفتاح عالم الغيب على القلوب الوالهة المفعمة بالحبِّ والعشق الإلهي المقدّس..
إنّ هذا الحبّ يُجسّد في كلّ علاقة بين الإنسان المُحبّ لله وبين الآخر.. يصوغ الرسول الهادي محمّد (ص) هذا البيان بقوله: "إنّ من أوثق عُرى الإيمان أن تحبّ في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله".
يخاطب القرآن الناس على لسان نبيِّه الكريم محمّد (ص): (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31).
إنّ اتِّباع الرسول (ص).. اتِّباع الحقّ والعدل والخير والإحسان.. وهو تعبير عن حبِّ الله.. إنّ حبّ الله هو حبّ الحقّ والخير والجمال.. وسيُبارك الله سبحانه هذا الإنسان المُحبّ، ويُقرِّبه منه درجات.. وسيفيض عليه إشراقات الحبّ والتكامل.. فتغمر نفسه ومشاعره مباهج السعادة والشوق الدائم إلى عظمة الجمال والجلال.. وتلك هي نفحات الحب الإلهي المقدّس، وإشراقات النور المضيء لكلّ معاني الحياة.. ويتلو القرآن على مسامع الإنسان تلك القِيَم والمآثر التي يحبّها الله في الإنسان..
إنّه يُحبّ التوابين.. الذين تركوا حياة المعصية والجريمة والضلال.. وعاد بهم الحبّ والشوق إلى الله.. إلى حياة الطهر والنقاء والاستقامة.. إنّه يُحبّهم ويُسجِّل هذا الحبّ لهم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222).
ويُحبّ المُتطهِّرين من الذنوب والقذارة.. قال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108).
ويُحبّ المُقسطين الذين يُقيمون القسط والعدل في ربوع هذه الأرض.. قال تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42).
ويُحبّ المُحسنين الذين يعملون الخير والإحسان.. نستقبل نفحات هذا الحبّ في قوله تعالى: (إنّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) (المائدة/ 13).
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 148).
إنّه يُحبّ الصابرين الذين يتحمّلون مشاقّ الحياة، ويواجهون بصبر وثبات الأذى والاضطهاد والعقبات من أجل الحقّ والهدى وخير الإنسان.. قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).
إنّه يُحبّ المتّقين الذين يخشون الله بالغيب ويُطيعون أوامره.. أوامر الحقّ والعدل والخير.. يبتعدون عن المعصية والجريمة والفساد في الأرض.. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).
إنّه يُحبّ الذين يُقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوص.. يُدافعون عن الحقّ.. ويُقاتلون الطاغوت، ويُحطِّمون الطغيان والكفر والفساد.. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4).
إنّه يُحب المُهاجرين، الذين يهجرون الأهل والمال والدِّيار من أجل حبِّه.. من أجل الحقّ والهدى والصلاح..
لذا أثنى على مَن يُحبّ المهاجرين بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
(وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 100).
كما يتحدّث القرآن عن حُب الله لكلِّ ذلك ولكلِّ أولئك، فإنّه يتحدّث عن كراهية الله سبحانه لأفعال وسلوكيات بشرية شرِّيرة، تدمر الحياة، وتسقط الإنسان.
فهو سبحانه لا يُحبّ الفساد والمُفسدين.. فقال تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة/ 64).
ولا يُحبّ الظالمين.. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 57).
ولا يُحبّ كلّ خوّان كفور.. (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج/ 38).
ولا يُحبّ كلّ مختال فخور مغرور بما عنده من مال وسلطة وجمال وعلم ومكانة اجتماعية..
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36).
ولا يُحبّ المُعتدين، الذين يعتدون على أموال الناس وحياتهم وأعراضهم وحقوقهم وكراماتهم..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة/ 87).
ولا يُحبّ المُسرفين، الذين يُسرفون في ما عندهم من مال وطعام وشراب ولباس وزينة وشهوات، بل وإنّ الله لا يُحبّ المُسرفين الذين يُسرفون في الجَدَل والكلام والحبّ والعقاب... إلخ.
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).
إنّ هؤلاء محرومون من الحبّ والقُرب الإلهي.. فقد باؤوا بغضبٍ من الله وحرمان..
إنّ إفاضة هذا الحُبّ الإلهي.. أو سلبه ممّن لا يستحقّه، يُجسِّد أمامنا حقائق كُبرى في هذه الحياة، وهي القيم والسلوكيات التي يحبّها الله.. فنحبّها ونملأ الحياة بعطائها ونمائها، نحبّ ما يحبّه الله ونكره ما يكرهه الله.. ونُجسِّدها سلوكاً ومشروعاً حضارياً وثقافياً رائداً.. كما تتجسّد أمامنا السلوكيات الأخرى التي يبغضها الله ويكرهها.. فتنطلق في نفوسنا الكراهية لكلِّ تلك السلوكيات الشرِّيرة والابتعاد عنها، ونُطهِّر المجتمع من آثارها وآثامها..
- الحب السلبي:
الحبّ ميل النفس وارتباطها وتفاعلها واندماجها مع الآخر والذات والأشياء والقِيَم.. وتتّجه – أحياناً – حركة هذه الغريزة والعواطف والنوازع اتِّجاهاً سلبياً ضارّاً فيتحوّل الحبّ إلى أذى وضرر على الذات وعلى الآخر..
إنّ أخطر أنواع الحبّ، الحبّ السلبي، هو الحبّ للدنيا وللشهوات وللمال.. حبّاً يستولي على العقول والقلوب فيصدّها عن الحقّ والخير والاستقامة، ويتحوّل إلى ظلم وعدوان وضرر، ومعصية، ويُحذِّر القرآن من هذا الحبّ بقوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) (القيامة/ 20). (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20).
وينهى القرآن عن حُبِّ مَن يُعادي العقيدة والمبدأ ومصالح الأُمّة.. لأنّه حبّ خاطئ، وإنّ دافع هذا الحبّ هو المصالح الدنيوية التي تقود إلى هدم العقيدة ومصالح الأُمّة، وهو حبّ لِمَن لا يُبادل الحبّ، بل يستبطن البغض والكراهية، ولو بادل الحبّ ولم يحمل العداوة لهان أمره.. جاء هذا النهي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران/ 118-119).
ويوضِّح لنا القرآن أنّ الحبّ ليس إيجابياً في كلّ ما نحبّ، بل من الحبّ ما هو خطأ وشرّ وضرر.. قد يندفع الإنسان بالحبِّ اندفاعاً أعمى.. أو يقوم على الجهل وضغوط الشهوات والأفكار الخاطئة، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216).
ويتحدّث النبيّ يوسف (ع) عن الموازنة بين حبّ الخير وحبّ الشر، إذ دُعي إلى المعصية فاستعصم وامتنع وأحبّ آلام السجن بديلاً عن حبّ الشهوات المُحرّمة.. وسجّل القرآن هذا الموقف العظيم بقوله: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف/ 32-34).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق