ظاهرة عجيبة من ظواهر التشريع الإسلامي، تلك هي الطبيعة الثنائية المادية الروحية والإنسانية والفردية الإجتماعية التي تسري باطراد في شعائر الإسلام. حتى أرى كل قاعدة من قواعدها الأربع تمثل قطباً ذا طرفين: طرف يربط المؤمن بربه، وطرف يربطه بإخوانه المؤمنين. ظاهرة مطردة، كلّما ازددنا في دراستها إمعاناً، زادتنا إيماناً بأنّ الذي فصل هذه الشريعة على مقياس الإنسان هو الذي فطر الإنسان روحاً في مادة، وفرداً في جماعة.
هذه الطبيعة الثنائية قد تكون جلية واضحة، في بعض الشعائر دقيقة عميقة في البعض الآخر، ولكنّها في شعيرة الحج أوضح وأجلى منها في سائر المواطن.
ولا نريد أن نطيل في وصف الجانب الروحي من هذه المأدبة الكبرى التي اعدها الله للمؤمنين عند أوّل بيت وضعه للناس، فذلك الجانب الروحي منها مثار الانبعاثة الأولى في قلب كل مؤمن يريد أن يلبي هذه الدعوة، ألا تراه حين يتفرغ لها من مشاغله وشواغله، ويفارق من أجلها أهله ووطنه، مضحياً بماله ووقته وراحته، متجرداً حتى من ثيابه وزينته. محتملا في هذه السبيل كل وصب ونصب – إنّه يرى في ذلك كله مرضاة لربه، ومطهرة لذنبه. وبرهاناً على الإيمان، وزاداً من التقوى، حتى إذا بلغ غاية سفره فأطل على الحرم الأمين، ثمّ وطئت قدماه مهبط الوحي الأوّل، أحس هنالك بشعور عميق من السكينة والطمأنينة، ثمّ أحس برباط وثيق من القرابة والنسب، ينتظم به في أسرة النبيين والصالحين الذين رفعوا هذا البنيان مناراً وهدىً للناس، أو الذين اجتذبهم إليه نوره وهداه، حتى إذا قضى مناسكه، وأتم شعائره شعر كأنّه خُلق خلقاً جديداً، وعاد بريئاً طهوراً كيوم ولدته أُمّه.
غير أنّ هناك بَوناً شائعاً بين فكرة العمرة، وفكرة الحج، فلو أن امرؤ أدى مناسك العمرة كلها منفرداً، في أي وقت يحلو له من أوقات السنة، دون أن يرى أحداً، أو يشارك أحداً في حِلٍ أو ارتحال – لأدى شعيرتها، وفرغت ذمته منها، ومن هنا يتجلى ما في العمرة من طابع الروحية الفردية، الذي تتسم به في الأعم والأغلب، نوافل العبادات، أما شعيرة الحج فريضة كانت أو نافلة فقد حدد الإسلام لها أشهراً معلومات، وعين لمناسكها أياماً معدودات، بل جعل لبعضها ساعات محدودة من تلك الأيّام المعدودة، بحيث لو فاتت فلا قضاء لها، بل قد يجب العود لها من عام قابل!
هكذا يجب أن يجتمع الناس على هذه المناسك، في وقت واحد، وفي صعيد واحد، بل في زي واحد، ثمّ يجب أن تتكرر هذه الشعيرة في كل موسم، وأن تشهد أرض الحرم وما حولها هذه الوفود الإسلامية، مجتمعة في ميقاتها من كل عام.
هذا العنصر الجمعي هو إذن رُكنٌ ركين، وعنصر أساسي أصيل، من دونه لا يكون الحج حجاً، ولا يقع فرضاً ولا نفلا، ولقد حرص الإسلام على هذا التجمع في الحج حرصاً يفوق كل حرص، وجعله هو الحلقة الختامية العليا كل عام يتوج بها سلسلة التجمعات المحلية التي دعا المسلمين إليها في مختلف المناسبات: دعا أهل المحلة أو الحي الصغير إلى التجمع في أقرب المساجد خمس مرّات كل يوم، ثمّ دعاء أهل القرية أو الحي الكبير من المدينة إلى التجمع في مسجدهم الجامع مرّة في كل جمعة. ثمّ دعا مرّتين. لصلاة العيدين.. مراحل متصاعدة، تنمو فيها روح الجماعة شيئاً فشيئاً. ويتضخم مظهرها رويداً رويداً، حتى تصل إلى هذه التجمع الإسلامي الكبير مرّة في كل عام، حول أوّل بيت وضع الناس.
ما سر تلك العناية البليغة، بهذا التجمع الموسمي الأكبر؟.
لقد كان مقدراً للإسلام أن ينتشر نوره في الآفاق، على مختلف الأقطار والأقاليم.. ولقد رأيناه بالفعل يبسط جناحيه على الأرض يميناً وشمالاً حتى أتى على نهايتها في أقصى الشرق. وفي أقصى الغرب، ثمّ رأيناه في الإتّجاه الرأسي يمد قطبيه ما شاء الله أن يمدهما في الشمال وفي الجنوب. ولئن كان قد توقف سيره بعض الشيء في هذا الإمتداد الرأسي لقد كان ذلك العارض وقتياً، إذ وضعت أمامه عقبات وحواجز صناعية، لو رفعت من طريقه لأصبح ينتظم المعمورة من جميع أقطارها. ذلك أنّ الإسلام فكرة سائغة، وشريعة عادلة، ونظام جميل مثله كمثل الماء العذب المنهمر، لا يصادف أرضاً مطمئنة إلا غمرها وعمرها، أياً كان جوها وأياً كانت تربتها. وهكذا انفتحت لدعوة الإسلام عقول الأُمم وقلوبها، على تنائي أقطارها، وإختلاف ألسنتها وألوانها، وأنظمتها وعوائدها وموروثاتها، فلو أنّ الإسلام رخص لكل أُمّة قبلت دعوته في أن تبقى حيث هي محصورة في نطاق حدودها لا تدري ما يجرى وراء تلك الحدود، من أنظمة وآراءٍ، أو أنّها تسمع بها ولا تراها فتصدق ما يصل إليها من أخبارها – إن صدقاً وإن كذباً – لو أنّ الإسلام رخص بذلك، لأفسح إذن الطريق أمام العقائد والعوائد المحلية القديمة وسائر المقومات الإجتماعية الخاصة بكل قُطر، لتركها تربوا وتنمو، وتتبلور وتتجمد حتى تكون عقيدة إلى جانب العقيدة، بل عقيدة في قلب العقيدة، وإذن لأصبحت الوحة الإسلامية وحدة إسمية نظرية، ولعادت شعوب الإسلام جماعات متنافرة متناثرة، لا قدر الله.
كان من الضروري إذن لبقاء هذه الوحدة ودوامها بصورة عملية أن يفرض على الشعوب الإسلامية نظام من الإختلاط والامتزاج والتجاور والتزاور، من شأنّه أن يحد من حدة التفاوت بينها، وأن يميل بمقوماتها الإجتماعية إلى التماثل والتشابه، أو على الأقل إلى التقارب والتناسق إذ يكون هذا الإختلاط فرصة ممهدة لإقتباس ما هو حسن جميل، وتهذيب ما هو شاذ متطرف، ويكون في الوقت نفسه تدريباً عملياً على التسامح والإغضاء عن الفوارق الشكلية التي لا يخشى أن تحدث صنعاً في كيان الجماعة العظمى.
ماذا عسى أن يكون هذا النظام؟.
نفرض على كل قطر أن يُوفد طائفة منه تجوب الأقطار كلها بين حين وآخر، للوقوف على سير عقائدها وعوائدها وعلومها وآدابها وأسلوب عبادتها ومعاملاتها، وللسهر الدائب على التنسيق بينها وصيانتها من أن يكون الإختلاف فيها إختلاف تناكر وتنافر.
يالها من ضريبة قاسية، ومهمة شاقة عسيرة!. أليس من الخير واليسر أن تجيء الوفود كلها إلى بلد واحد؟. أو ليس من خير الخير وأيسر اليسر – أن يكون هذا البلد في صرة الأرض على بُعد متناسب من كل أقطارها، وأن يكون هذا البلد، هو البلد الآمن الذي يلجأ إليه المكروبون ويأمن فيه الخائفون؟ وأن يكون هذا البلد هو البلد المحروم من ثمرات الأرض الأحق بالبر والرفد وهو البلد الذي للإسلام فيه رحم تتقاضانا بِرَها وصلتها منذ أقدم العصور، منذ قال إبراهيم (ع): (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).
أو ليس من تمام الحكمة أن يكون هذا البلد هو المكان الذي نزل فيه القرآن، والذي يتخاطب فيه الناس بلغة القرآن، ليكون فيه لغير العرب أُلفة ما بلغها العرب التي ينبغي أن تكون من عناصر العالمية الإسلامية؟
وأخيراً، أليس الخير كله في أن يكون هذا البلد هو البلد الذي فيه قبلة المسلمين ومشاعر عبادتهم؛ مطافهم ومسعاهم، وموقفهم ومرماهم؟.
هكذا اختار الله للمسلمين أن يكون مجتمعهم السنوي في مكان يُوفون فيه حق دينهم ودنياهم معاً. كما قال – جلت حكمته –: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * يَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) (الحج/ 27-28).
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج/ 28).. ما أعجب هذه الكلمة! ما أوجزها! وما أجمعها! إنها لتتناول شؤون الإقتصاد والسياسة. والحرب والقانون. والعرف، واللغة، والآداب. والعلوم، وسائر مقومات الحياة الجماعية التي تتأثر أعظم التأثر بهذا الإتصال والتلاقي. كما تتأثر السوائل بتلاقيها في الأواني المستطرقة، فتأخذ في التوازن والتعادل طلباً للوصول إلى مستوى واحد.
ولكن هل يظل المسلمون في مواسم حجهم قانعين بهذا الموقف السلبي الذي لا يعمل فيه إلا العقل الباطن البطيءُ الفاتر؟. أليس يجب أن يتقدّموا خطوة إيجابية، توضع فيها الخطط المفصلة لهذه الوحدة الإسلامية الشاملة؟. بلى، لقد آن للأُمم الإسلامية أن تخرج من سجن هذه الفرديات المنعزلة، والقوميات المنفصلة إلى محيط الجماعة الكبرى التي يرون منها نموذجاً مصغراً في هذه الرحلة المقدسة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق