• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوبة.. باب الله الآمن

عمار كاظم

التوبة.. باب الله الآمن

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم/ 8)، التوبة هي دعوة ربانية مفتوحة وموجهة لكل المذنبين في الأرض، والمذنبون جميعاً مدعوون لقبول هذه الضيافة الإلهية، من أجل أن يضعوا حداّ لفسادهم وغيِّهم وأن لا ييأسوا من رحمة الله. فالتوبة، هي باب الله الآمن الذي فتحه إلى ساحة عفوه «إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سميته التوبة»، والذي تركه الله تعالى مفتوحاً بالليل والنهار، ملجأ ومأوىً لعباده الهاربين من واقعهم المنحرف ليدخلوه متى أرادوا، بمجرد أن يتولد عندهم رغبة مخلصة في التطهر من دنس الخطايا والذنوب والمعاصي.

فحقيقة التوبة النصوح أرقى بدرجات من التوبة التي يعود فيها الإنسان إلى الذنوب، وبالتالي فإنّ أثرها يختلف عن آثار التوبة العادية، كما أنّ شروطها كذلك. إنّ أعظم فضل للتوبة أنّها سبب لمحبة الربِّ للعبد التائب. أنّها أيضاً سبب لنور القلب ومحو أثر الذنب، فلينتبه كلّ مؤمن وكلّ مؤمنة، فإنّه لا يستغنى عن هذا الموضوع عالم أو حاكم رجل أو امرأة أو شاب أو شابة، فكلنا بحاجةٍ إلى التوبة.

في معنى التوبة النصوح، أنّ المفسرين اختلفوا في تفسيرها على أقوال، منها: أن المراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبداً. ومنها: أن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل نصوح إذا كان خالصاً من الشمع، بأن يندم على الذنوب لقبحها، وكونها خلاف رضا الله تعالى لا لخوف النار مثلاً. ومنها: أن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة تنصحون بها أنفسكم بأن تأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية، ويكون ذلك بذوب النفوس بالحسرات ومحو ظلمات القبائح بنور الأعمال الحسنة.

إنّ صدق التائب مع الله في توبته يطهره من كلّ ذنبٍ مهما كبر أو صغر، فمثل الذنوب كمثل سحابةٍ كثيفةٍ مظلمةٍ، تحجب بمرورها ضوء القمر عن الأرض، فإذا انقشعت عاد النور ساطعاً، فالذنوب كالسحابة والاستغفار يمثل حالة انقشاعها.

للتوبة النصوح مجموعة من الشرائط لا تتحقق التوبة دونها، منها: الإخلاص، فلا ينبغي للتائب أن يتوب لمجرد الخوف من العذاب والعقوبة، أو مذمة الناس وخوف الفضيحة، وإنّما يتوب لله تعالى، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة/ 5).

ومنها: الإقلاع عن المعاصي والذنوب، فإنّ حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب لقبحة إلى الطاعة، فلا يمكن للتوبة أن تحصل مع كون المذنب مواظباً على ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات، فعن أمير المؤمنين (ع) قوله: «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه».

ومنها: المداومة على العمل الصالح، فإنّ من أقلع عن الذنوب والمعاصي من الطبيعي أن يهوى العمل الصالح ويميل إليه، ويدوام عليه. ومنها: ردّ المظالم، فإن كان الذنب متعلقاً بحقّ عبد من عباد الله فلا بدّ من التحلل منه بالكيفية الممكنة. ومنها: الإكثار من الاستغفار، لما فيه من الخير الكثير والبركة العميمة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال/ 33)، فجعلها الله عدل الوجود المبارك لرسوله (ص)، فكما أن لوجود رسول الله (ص) في هذه الحياة الدنيا من الخير العميم ورفع العذاب، فإنّ للاستغفار كذلك من الفضل. وكلمة (يستغفرون) تدل على المداومة والاستمرار في العمل لا فعله دفعة واحدة والانتهاء. ومنها: عدم اليأس من قبول التوبة ورجاء الغفران دائماً، الأمر الذي يحفز المذنب على مداومة الاستغفار، ورجاء الإجابة.

ارسال التعليق

Top