على القارئ مع نهاية هذا المقال أن:
1- يتعرّف إلى معنى وحقيقة الصلاة.
2- يبيّن موقعية الصلاة ودورها في سير الإنسان وتكامله المعنوي.
3- يبيّن أنّ للصلاة آداباً ظاهريةً وباطنيةً بمراعاتها يتحقّق الهدف من تشريعها.
الأمر الإلهي بالاستعانة بالصلاة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 45-46). إنّ طلب العون والمساعدة، إنما يكون فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمّات والنوازل، وحيث إنّه لا معين في الحقيقة، ولا ناصر إلّا الله سبحانه وتعالى فإنّ الإنسان المؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، يتوجّه إليه ويدعوه ليكشف له كربته ويقضي له حاجته، فالملك له، وهو على كلّ شيء قدير (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1).
والعون على المهمّات والنوازل التي يمكن أن تنزل على الناس يكون من خلال أمرين كما ذكرت الآية الشريفة؛ الأوّل من خلال مقاومة الإنسان لهذه النوازل والصعاب بالثبات والاستقامة، وثانياً من خلال الاتصال بالله عزّ وجلّ، والإقبال عليه بواسطة الصلاة. فالإقبال على الله والالتجاء إليه يوقظ روح الإيمان، وينبّه الإنسان إلى حقيقته التي هي عين الفقر والتعلّق بالله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، ومحض الضعف والعجز، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الرُّوم/ 54). فلا يستغني ولا يتكبّر بل يتوجّه إليه عزّ وجلّ خاشعاً ذليلاً معترفاً بعجزه ومسكنته وتقصيره، فيدعوه مخلصاً له الدين كي يقضي له حوائجه، ويفكّ عنه ضيقه، وينجيه ممّا هو فيه.
والصلاة هي أشرف وأعزّ وسيلة لربط الإنسان بالخالق جلّ وعلا، فهي تربط الإنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء. وهذا الإحساس يبعث في الإنسان القوّة على تحدّي المشاكل والصعاب.
فالتوجّه إلى الصلاة والتضرُّع إلى الله سبحانه يمنح الإنسان طاقة جديدة تجعله قادراً على مواجهة التحدّيات. فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا يتوضّأ ثمّ يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيهما؟ أما سمعت الله تعالى يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 45). وعنه (ع) أيضاً قال: "كان علي (ع) إذا هاله أمر فزع إلى الصّلاة، ثمّ تلا هذه الآية: واستعينوا بالصّبر والصلاة". فالصلاة إذاً هي الرابطة الوثيقة بين الخالق والمخلوق، وهي الباعث على اطمئنان القلوب المضطربة والمتعبة (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28)، وأساس لصفاء الباطن وتنوّر الروح. فكيف لا يشعر بالقوّة والصفاء من كان في محضر الحقّ تعالى جالساً بين يديه يناجيه، ويكلّمه ويستمدّ من فيضه المطلق ومواهبه السنيّة؟
والاستعانة بالصلاة ليست بالأمر السهل، بل لا يقوى عليها إلّا عباده الخاشعون، الذين آمنوا بلقاء الله والرجوع إليه كما بيّن عزّ وجلّ في آخر الآية المباركة. فالخاشع هو الإنسان الذليل في صلاته المقبل عليها بقلبه والمتوجّه بصدق وإخلاص إلى ربّه. والخشوع حالة تنشأ في النفس عندما يبدأ الإنسان بالخروج من أنانيّته وشيطنته، وكلما ازداد خروجه من أنانيّته ازداد انقياداً لربّه، وكلما ازدادت جهة الانقياد إلى الله ازداد استشعاره بعظمة الله والتذاذه بوصاله وتألّمه من فراقه، وبالتالي يزداد خشوعاً في صلاته حتى تصبح صلاته قرّة عينه، وتغدو راحته فيها كما روي عن النبيّ (ص) أنّه قال: "جُعلَ قرّةُ عيني في الصلاة" وكان يقول عندما يحين وقت الصلاة "أرِحنا يا بلال".
حقيقة الصلاة:
الصلاة هي رابطة الاستفاضة الدائمة من الله تبارك وتعالى منبع ومبدأ كلّ الخيرات، وهي أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله عزّ وجلّ، كما قال إمامنا الصادق (ع): "ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى ابن مريم (ع) قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31)". وهي براق السير ومرقاة عروج الرّوح إلى الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث المشهور عن رسول الله (ص) أنّه قال: "الصلاة معراج المؤمن". هي عمود الدين كما روي عن رسول الله (ص): "الصلاة عمود الدين"، وهي باب الرحمة الواسعة التي يظلّل الله تعالى بها عبده من فوق رأسه إلى أفق السماء وهو قائم يصلّي بين يديه، فعن الإمام الصادق (ع) قال: "إذا قام المصلّي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفّت به الملائكة، وناداه ملك لو يعلم هذا المصلّي ما في الصلاة ما انفتل".
ولكلّ إنسان صلاته المختصّة به، وله حظٌّ ونصيبٌ منها بحسب مقامه عند الله، ودرجة إيمانه وقربه منه عزّ وجلّ. فليس كلّ مَن أتى بهذه الفريضة الإلهية مع ما خصّت به من المنزلة الرفيعة والفضل، عرجت روحه نحو الله عزّ وجلّ، واستحقّ فيضه المطلق ورحمته الواسعة، لأنّ للصلاة آداباً وشروطاً ينبغي مراعاتها والالتزام بها حتى تصبح معراجاً للروح الوالهة الباحثة عن الكمال والسعادة، والتائقة إلى لقاء ربّها. فعن النبي الأكرم (ص) قال: "إنّ الرجلين من أُمّتي يقومان في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحدٌ، وإنّ ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض".
سر التفاوت في الصلاة:
في الحديث عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال: "إنّ الرجلين من أُمتي يقمان في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحدٌ، وإنّ ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض".
إنّ منشأ هذا التفاوت في الصلاة هو مراعاة آداب الصلاة وشروطها وعدمه. فللصلاة أحكامٌ وآدابٌ ظاهرية هي صورة الصلاة؛ من الطهارة، والقراءة، والقيام والركوع، والسجود، والتشهّد، بمراعاتها يكون المكلّف قد أدّى ما افترضه الله عليه، فلا يعذّب على تركه للصلاة (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر/ 42-43). كما وأنّ لهذه الفريضة أيضاً آداباً وشروطاً باطنية بمراعاتها يصل الإنسان إلى كمال الصلاة، فتصبح بحقّ معراج روحه، وعمود دينه، وأفضل ما يتقرّب به إلى ربّه، فإعلم أنّ للصلاة غير هذه الصورة لمعنى، ولها دون هذا الظاهر باطناً، وكما أنّ لظاهرها آداباً يؤدي عدم رعايتها إلى بطلان الصلاة الصورية (الظاهرية) أو نقصانها، فإنّ لباطنها آداباً قلبية باطنية يلزم من عدم رعايتها بطلان أو نقص الصلاة المعنوية، كما أنّه برعاية تلك الآداب تكون الصلاة ذات روح ملكوتي.
ونحن من خلال التدبُّر في هذه الأحاديث الشريفة والتأمُّل في حال الأئمة الأظهار الذين كان يتغيّر لون أحدهم عندما يحين وقت أداء الصلاة، وترتعد فرائصهم، ويغشى عليهم، ويذهلون عن كلّ ما سوى الله بصورة كاملة، نفهم أنّ لهذه الصلاة حقيقة وبُعداً أخر غير البعد الظاهري. فعن الإمام الصادق (ع): "كان علي بن الحسين (ع) إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفضّ عرقاً". وفي عدّة الداعي روي: "أنّ إبراهيم (ع) كان يُسمع تأوّهه على حدّ ميل حتى مدحه الله بقوله: إنّ إبراهيم لحليم أوّاه، وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل، وكذلك يسمع من صدر سيدنا رسول الله (ص) مثل ذلك، وكانت فاطمة (ع) تنهج في الصلاة من خيفة الله".
فمن خلال التأمُّل في حال الأولياء الكمّل صلوات الله وسلامه عليهم نستنتج أنّ هذه الصورة الدنيوية والهيئة الظاهرية للصلاة من قيام وركوع وسجود و... ليست هي حقيقة هذه العبادة الإلهية، حيث يمكن لأي إنسان أن يؤدّيها وفق شروط صحّتها وكمالها الظاهري. فلا معنى عندها لذلك المقدار من تغيّر الألوان وارتعاد الفرائص والخوف والخشية من القصور والتقصير. ولا هي وصفة العلاج التي تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، كما قال عزّ وجلّ: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، لأنّنا نجد أنّ هناك من يأتي بهذه الفريضة الإلهية، ومع ذلك لا نراه يتورّع عن الفحشاء وفعل المنكر!!
بل للصلاة حدود وآداب باطنية ومعنوية بمراعاتها يفوز الإنسان ويكون من المفلحين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2)، فالآية تربط بشكل صريح وواضح بين الفلاح وخشوع الإنسان في صلاته. والخشوع من آداب الصلاة وشروطها المعنوية. سأل أحد الأشقياء الإمام الصادق (ع) عن الصلاة وحدودها فقال له: "للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تفي بواحد منها"، فلو كانت الحدود الأربعة آلاف هي من الحدود الظاهرية للصلاة لما قال (ع) "لست تفي بواحد منها" لأنّه من الواضح أنّ بإمكان كلّ شخص أن يأتي بالآداب والأفعال والحركات الظاهرية للصلاة.
إذاً للصلاة آدابٌ وشروطٌ ينبغي مراعاتها والالتزام بها حتى تصبح معراجاً للروح الوالهة الباحثة عن الكمال والسعادة، والتائقة إلى لقاء ربها.
المصدر: كتاب دروس في التربية الأخلاقية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق