د. أمنية التيتون/ أكاديمية من البحرين
ولهذا أصبحت هناك دعوة لتبني فلسفة "الكفاية" – ما يكفي للحياة الكريمة – والتربية عليها وممارستها في الحياة العامّة والخاصّة في إطار حركة الاستدامة العالمية الكبرى التي تحاول وضع الإنسان والكوكب في قلب القرارات التي نتخذها.
لقد وجد الاقتصادي الإيكولوجي الأمريكي هيرمان دالي Herman Daly أنّه ينبغي اعتبار مفهوم "الكفاية" من المفاهيم الأساسية في الاقتصاديات، وغرسه في مؤسساتنا وفي ثقافتنا، وعلّق قائلاً: من الغباء أن نتعب لنحصل على أكثر مما نحتاج، كما أنّه ليس من الأخلاق أن نحصل على أكثر من الكفاية باستغلال الآخرين، مثلما تفعل طبقة الصفوة ممن يحتكرون الفوائد، ولا يتشاركون إلّا في التكاليف. ويؤكد بذلك على قضية التحول من اقتصاديات "المزيد" إلى اقتصاديات "ما يكفي" التي طرحها كلّ من ديتز وأونيل في كتابهما "Enough is Enough" لأنّ المزيد – من وجهة نظرهما – نموذج أثبت فشله بيئياً واجتماعياً، وإنّ استعادة صحّة البيئة والاستقرار مرهونة بعدم الاستمرار في الجري وراء نمو اقتصادي، من دون إدراك لحقيقة أنّ الموارد الطبيعية محدودة. وقد لاقت فلسفة الكفاية لتحقيق الاستدامة قبولاً ظهر في مزيد من الكتب ومن المؤتمرات التي تناولت فكرة الكفاية، سواء من منظور الرضا والقناعة والاستمتاع بتوافر ما يكفي للحياة الكريمة، أو منظور الاعتراض والمطالبة بالتغيير الذي يمكن التعبير عنه بجملة مثل: "لم نعد نحتمل المزيد"؛ أو معنى الكفاية الذاتية، أي نكون قادرين على توفير ما نحتاج من سلع أساسية.
"أفكار الكفاية":
ولعلّ من أفكار الكفاية المهمة والمتصلة بقضية الاستدامة ما جاء في تقرير صدر عن مؤتمر الاقتصاد المستقر الذي عُقد في بريطانيا قبل بضعة أعوام برعاية مركز تقدم الاقتصاد المستقر Casse، والعدالة الاقتصادية للجميع EJfa. وتناول عدداً من القضايا من منظور اقتصادي، منها:
الزيادة السكانية (يكفي ناس)، وعلاقتها بالآثار المترتبة على البيئة التي يمكن أن يعبر عنها بالمعادلة (أ = س × د × ت)، حيث تمثل "أ": الأثر المترتب على البيئة؛ و"س" عدد السكان؛ و"د" دخل الفرد، و"ت" التكنولوجيا. وهذا يعني أنّه إذا أردنا التقليل من الأضرار، علينا التحكم في الزيادة السكانية، والالتفات إلى إنفاق الدخل في ما لا يضر، وإنتاج واستخدام التكنولوجيا في الحدود الآمنة. ويعرف عدد السكان المثالي بالعدد الذي يمكن معه توفير نوعية حياة مستدامة لجميع الناس.
العدالة الاقتصادية (يكفي ظلم)، المتعلقة بغياب التوزيع العادل للموارد والثروات، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ بينما من الممكن – من استخدام فلسفة الكفاية – أن يتمتع جميع الناس برعاية صحّية، وتتحسن فرص الحراك الاجتماعي وتنخفض معدلات العنف والإدمان، والإصابة بالأمراض النفسية.
تراكم الديون (يكفي قروض) والطرق غير المستدامة للتعامل مع المال. حيث التركيز على فكرة جلب مزيد من المال ومراكمته بدلاً من استخدامه في خدمة البشر وتطوير المجتمعات. وخطورة تراكم المديونيات وتضخمها بسبب الفوائد المركبة، ثم توريثها للأجيال القادمة.
قياس التقدم (يكفي مؤشرات فقر) بطرق مختلفة عن المقياس التقليدي للناتج المحلي الإجمالي، ليصبح التقدم عبارة عن علاقات، وحرية تعبير، وحماية النظم الإيكولوجية، والتعاطف مع الآخرين، ومع الكائنات الحية الأخرى، والتعليم مدى الحياة، والتجارة العادلة، والشعور بالرضا، والأمن، وزيادة العمر المتوقع، والإبداع، والفنون، والتنوع الحيوي، والتسامح، والثقة، والاحترام، وإعلاء القيم، وتحقيق التوازن، والصحّة، وتخصيص وقت للآخرين، ونزع التسلح، وزيادة مقابل العمل.
العمل/ البطالة (يكفي عمل/ بطالة)، بدلاً من استخدام التقدم التكنولوجي في تقليل أعباء وساعات العمل صار أصحاب الأعمال يسعون إلى مزيد من البضائع والمنتجات وتحقيق نمو اقتصادي متصاعد تطلب ساعات عمل أطول.
العلاقات مع الدول الأخرى (يكفي عزلة) للانتقال من عهد النمو إلى عهد الاستدامة من الضروري التوقف عن اعتبار العالم مجموعة من الدول المنفردة، والنظر إليه ككيان كلي متكامل مكوّن من مجتمعات وثقافات متنوعة قدرها أن تتقابل. وعلى المنظمات الدولية مثل الأُمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي أن ترعى مصالح أكبر قدر من الناس على كوكب الأرض.
الاستهلاك (يكفي مادية، تنبغي مواجهة المادية بتدابير مثل تشجيع أساليب الحياة غير المادية. وتنمية الوعي بالسلوك الاستهلاكي ورفض الإسراف والاستهلاك المبالغ فيه. ومزيد من الفهم للقيم والدوافع ونظم القيم للسلوك الإنساني في ما يتعلق بمعرفة الكفاية.
المشاركة السياسية (يكفي صمت)، لتحقيق الإصلاح، على الساسة والعاملين في الإعلام، والأكاديميين، والرأي العام كسر الصمت، واتخاذ خطوات نقدية في اتجاه التحوُّل إلى الاستدامة بتبني استراتيجيات للبحث والتحليل، ومشاركة جميع الأطراف المعنية في مؤتمرات ومنتديات.
فلسفة الفاشلين!
وفي السياق نفسه قدمت "آن ريان" Anne Ryan منظورها لفلسفة الكفاية، التي ترى أنّها فقدت جاذبيتها، ومعناها الأصيل، لتصبح فلسفة "الفاشلين" ممن يتجنبون تحديات الحياة ومغامرات الإنجاز والحصول على المزيد. بينما تتعلق الكفاية، في الحقيقة، بفكرة "الأمثل"، أي أن نمتلك القدر المناسب والمقدار الصحيح من الأشياء، ونستخدمها بشعور عميق بالامتنان، من دون هدر للموارد ولا للجهد، ومن دون بخل أيضاً.
من المؤكد أن فهم فلسفة الكفاية يختلف من جيل لآخر؛ فقد كانت الأجيال الماضية حكيمة، تقدر الكفاية وتحتفي بها. وكان معظم الجيل الذي تربى في بداية القرن العشرين يعيش أسلوب حياة قائم على فلسفة الكفاية. وحاول هذا الجيل بدوره غرس معنى الكفاية في أولاده، غير أنّ غالبية أبناء جيل الوسط فهموا الكفاية على أنّها شح، وربطوها بمشاعر محبطة، ورفضوها، ثم ربوا أطفالهم على أفكار الزيادة والتراكم والكم، وجعلوها مرادفة للسعادة. وهكذا صار التركيز على النمو الكمي بغضِّ النظر عن طبيعته، وساهم ذلك في الوصول إلى الوضع الراهن من استنزاف للموارد، واعتلال النظم الإيكولوجية. وحان الوقت للعودة إلى حالة التوازن، باستعادة المعنى الأصيل لفلسفة الكفاية.
لقد تناولت آن ريان فلسفة الكفاية بربطها بالأبعاد الإيكولوجية، والجمالية، والأخلاقية، والروحية. فمن وجهة نظرها، أنّ هذه الفلسفة قادرة على إعادة الاقتصاد إلى حدود الطبيعية، بعيداً عن المبالغة في النمو والجري وراء تحقيق المكاسب؛ حيث يمكن رؤية الصورة الكبرى، والتركيز على حاجة النظم الإيكولوجية التي تساعدنا على الاستمرار، وتعزيز الشعور بالانتماء، ووجود المعنى، وتبني مبادئ خادمة للإنسان والكوكب كمبدأ المشاركة، والتوزيع العادل للثروات. ولكي نقدر الكفاية، نحتاج لأن نشعر بالجمال، لأنّ في مفهوم الكفاية جمال وأناقة وتحدي التوازن، عند الخط الفاصل بين الزيادة والنقصان، ومَن يتأمل، يجد أنّ مبدأ الكفاية موجود في شتى الفنون التي يتطلب إتقانها، وإبراز معناها مقادير مناسبة من المسافات أو الألوان أو الحركات، أو الكلمات. كما يعد التقدير الثقافي والتقدير الشخصي لجمال الكفاية بداية لممارسة أخلاقية، كالالتفات إلى المبادئ والقيم التي تكمن وراء كلّ فعل نقدم عليه. وتتشابه الأخلاق مع الإيكولوجيا في مهمة فحص كيفية ازدهار كلّ شيء في علاقته مع كلّ شيء آخر، فكلاهما معني بالروابط والآثار التي يتركها كلّ جزء في النظام على الأجزاء الأخرى. وهذا يعني أنّ الجميع مسؤول عن المحافظة على الكوكب، وتحقيق العدالة والإنصاف؛ وعلينا جميعاً العمل بالقدر الكافي نحو اتخاذ قرارات أخلاقية تضع البشر والمجتمعات والطبيعة في الاعتبار. أما الروحانية في سياق الكفاية فهي تعني الانتباه والوعي بما يحدث من حولنا، حتى لو كان ذلك مؤلماً. وجزء من الروحانية بلوغ راحة البال، والشعور بالاطمئنان. ولا يعني ذلك مجرد القبول بما هو متاح والرضا بما يكفي، بل مقاومة قبول الأخطاء وارتكابها، والسعي لعمل ما ينبغي عمله على طريق الكفاية الروحي العام، كرعاية النظم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، حيث لا تغني الممارسات الروحانية الشخصية ولا تكفي لشفاء الكوكب والناس.
هذا، ويضج المنظور الإسلامي للاستدامة بمفاهيم ومناهج الحياة الطيبة كما يؤكدها المستشار الدولي للتنمية المستدامة عودة الجيوسي، الذي أشار إلى مكونات الحياة الطيبة كالذرية الطيبة المؤكدة على التنمية البشرية وعلى وضع مستقبل الأجيال القادمة في الاعتبار؛ ومفاهيم البلد الطيب، والكلمة الطيبة، والطعام الطيب، ومنهج الزهد والاعتدال والتوازن، ومفهوم النماء والبركة التي تتحقق بمشاركة الموارد، في مقابل زوال النعم بغياب الشكران والتقاسم.►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 679 لعام 2015م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق