◄خلق الله الإنسان ككائن فريد من نوعه، وقد كرّمه وفضّله على سائر المخلوقات الأخرى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70)، فالإنسان باعتباره أشرف المخلوقات وأعظمها، يتحمل في مقابل ذلك مسؤولية البناء والتعمير والإصلاح، وإقامة العدل، ونشر الخير، وتعميم الفضائل، ومنع الرذائل؛ إنّها مسؤولية الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72).
والإنسان كائن عجيب من حيث الخلقة والقدرة؛ فقد خلقه الله عزّ وجلّ مزدوج الطبيعة، فيه عنصر مادي طيني، وعنصر روحي سماوي، يقول الله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 71-72)، ونتيجة لتركيبة الإنسان الممزوجة من عنصري الطين والروح، فإن عنصر الطين يشده إلى الأرض، وما ترمز إليه من شهوات ومذلات وغرائز وهو بحاجة إلى إشباع غرائزه وشهواته من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح.. في حين أن عنصر الروح يدفعه نحو إشباع ميوله ورغباته الروحية والمعنوية، كما يدفعه كذلك إلى الرقي في مدارج السمو الروحي، والتحليق في سماء المثل والقيم.
وقد زود الإنسان بالغرائز المادية التي تدفعه وتحثه على القيام بعمارة الأرض، وتكثير الجنس البشري، وإدارة الحياة. ولولا هذه الغرائز لانعدم التقدم والتطور والتحضر، ولا نقرض الجنس البشري منذ قديم الزمان كما انقرضت الديناصورات منذ ملايين السنين. كما زود الإنسان بالميول والرغبات والغرائز الروحية والمعنوية كي يقوم بعبادة الله عزّ وجلّ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، ولولا ذلك لما عبد الإنسان الله عزّ وجلّ، ولما شعر بالحاجة إليه، ولما تذوق لذة محبته.
ومن الضروري خلق التوازن بين الجسم والروح، كي لا يطغى جانب على حساب آخر، إذ لو طغى الجانب المادي (الطيني) في الإنسان على الجانب الروحي فإن ذلك يهبط به إلى مستوى البهائم أو أضل سبيلاً. ولو طغى الجانب الروحي على الجانب المادي فإن ذلك سيؤدي به إلى الرهبنة والتصوف والانعزال عن الحياة، ومن ثمّ ترك القيام بمسؤولية عمارة الأرض، وبناء الحضارة، وإدارة الحياة، وهذا ما يؤكد لنا أنّ التوازن الدقيق هو المنهج الصحيح في التربية الإسلامية وبالخصوص لجيل الشباب. فلا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، ولا نفخة الروح على قبضة الطين، فالله عزّ وجلّ خلق الإنسان مزيجاً منهما، ويريد منه أن يعيش كذلك!
والشباب حيث القوة والعنفوان والشعور بالعجب والاقتدار أحوج ما يكونون للتوازن الدقيق بين متطلبات الجسم ولوازم الروح، ولأنّ النفس أميل بطبيعتها إلى الانشداد إلى غرائزها وشهواتها المادية، فإنّ الشباب بحاجة قوية إلى مجاهدة النفس، وممارسة الرياضة الروحية، وترويض الذات على سلوك طريق الحق والهدى والصلاح.
وجيل الشباب حيث يعيش صراعاً قوياً ومحتدماً ويومياً بين شهواته ورغباته المادية من جانب، وميوله ورغباته الروحية والمعنوية من جانب آخر، يقع في امتحان عسير، فإنّ قدّم شهواته على مبادئه وقيمه ومُثُله، فإنّه بذلك يكون قد اتخذ إلهه هواه، وأما أن ينتصر لمبادئه وقيمه ومُثُله الدينية، وعندئذٍ يكون قد اجتاز الامتحان بنجاح!
والإسلام لا يمانع من إشباع الغرائز المادية ولكن يجب أن يكون ذلك بالحلال، وبوسائل مشروعة، وضمن حدود وضوابط الشرع، وإلا فلا يمكن للإنسان أن يتجاوز ويتجاهل حاجاته المادية من أكل وشرب وجنس ومال.. وليس من الصحيح أن يكون الإنسان منعزلاً عن الجانب المادي في كيانه، وإنما نتحدث هنا عن الانسياق وراء الشهوات، والانغماس في الملذات بطرق غير مشروعة، ومن دون حدود ولا قيود.. فهذا هو الممنوع والمحرم.
وبما أنّ الشباب هي مرحلة الهيجان واستيقاظ الغرائز لابدّ من الاهتمام بالجانب الروحي للشباب، فهم أحوج ما يكونون إلى الارتباط بالخالق عزّ وجلّ، والتقرب إليه، والتوسل به، وبذلك يقترب الشاب أكثر وأكثر من ربه وخالقه تبارك وتعالى.
وفي عصر طغت فيه المادية على كلّ شيء؛ وذلك بفعل الحضارة المادية والتي تركز على كلّ ما هو مادي، وتتجاهل كلّ ما هو روحي وقيمي؛ أصبح السباحة في بحر الشهوات والماديات هو شعار الفلسفة المادية الحديثة، وعنوان المدنية والتقدم والتحضر!
وقد قسمت الفلسفات المادية الحديثة المعرفة إلى طبيعية (فيزيقيا) وما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) فاعترفت بالأولى وأنكرت الثانية واعتبرتها مجرد خرافات وأساطير وتصورات ابتدعها الإنسان من وحي خياله وتفكيره؛ وهذا ما أدى إلى تقوية العلاقة بين الإنسان وعالم الطبيعة وكلّ ما هو مادي ومحسوس، والانطقاع عن عالم الروح وكلّ ما قيمي ومُثُلي، وقد انعكس هذا سلباً على سلوك الإنسان وممارساته المادية، فالإنسان في ظل الحضارة المادية أصبح يمارس كلّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة في سبيل الوصول إلى غاياته وأهدافه، وإن كان ذلك على حساب الأخلاق والقيم الإنسانية.
أما فلسفة الإسلامة تجاه الإنسان فهي قائمة على التوازن بين أبعاد الإنسان ومكوناته الروحية والعقلية والجسمية، وهو لا يجيز الوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة إلا من خلال وسائل وأساليب نبيلة أيضاً.
ووحدة الخالق وتوحيده حرر الإنسان من عبودية الذات، ومن عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، وبذلك يتحقق للإنسان الحرية الحقيقية القائمة على توحيد الله عزّ جلّ، والخضوع له، ورفض الخضوع لأي كائن آخر.
وتعتبر العبادات الشعائرية من صلاة وصيام وحج وزكاة.. وسائل مهمة لبناء الروح، وتنمية المثل والقيم الروحية في الإنسان. كما أن لتلاوة القرآن، والدعاء، والمناجاة الأثر الكبير في تنمية الروح وتغذيتها.
إنّ التزام الشباب بالصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلاوة القرآن والدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى هو الذي يحافظ عن شعلة الدين في نفوس الشباب، وينمي الأبعاد الروحية لديهم، مما يجعلهم أقوياء أمام ضغوط النفس، وأعباء الحياة، ومغريات الحضارة المادية الحديثة.
والتمسك بالقيم الروحية والمعنوية هو أفضل حصانة للشاب من الانهيار أمام مغريات المادة، أو التحول إلى عبد من عبيد الشهوات، كما أنّ البناء الصلب للجوانب الروحية هو الذي يجعل الشاب قريباً من الله، محبوباً عنده، وعند الناس، فقد روي عن الرسول محمّد (ص) قوله: "إنّ أحب الخلائق إلى الله عزّ وجلّ شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً". وعنه (ص) قال: "إنّ الله يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله". وعنه (ص) قال: "ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها وأهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً". فإذا أردت أن تكون محبوباً عند الله قريباً منه.. فليكن شبابك وحياتك كلها لله عزّ وجلّ وفي طاعته وعبادته.►
المصدر: كتاب الشباب.. هموم الحاضر وتطلعات المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق