• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إدارة الوقت والثقافة

د. عدي عطا حمادي

إدارة الوقت والثقافة

◄لا يمكن لإدارة الوقت أن تقدم ما هو مطلوب منها إن لم تأخذ بنظر الاعتبار ثقافة المحيط الذي تعمل فيه، ففي المجتمعات الغربية، يمثل العمل في إطار الوقت وإدارته وتنظيمه عنصراً يكاد يكون مقدساً والعاملين في ضوء ذلك هم أشبه بالكهنة أو النساك، كوجه من أوجه المبالغة باحترام الوقت وإعلاء قيمته. وإلى ذلك يعزو الكثير من المفكّرين والعلماء والقادة ما وصلت إليه هذه المجتمعات من مدنية ورقي وتحضر اليوم. إنّ هذا الوصف ليس حكراً على المجتمعات الغربية، فإنّ كثيراً من المجتمعات الشرقية اليوم تتبنى هذا المفهوم رغم أنّها لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه المجتمعات الغربية، غير أنّ الجذور الحضارية للمجتمعات الشرقية أكّدت منذ آلاف السنين أنّ الأُمم والشعوب التي عاشت في الشرق رفعت أهمية الوقت وإدارته وتنظيمه إلى حد القداسة حتى أنها أنتجت لنا معظم ما يعرف اليوم بعجائب الدنيا. فعلى سبيل المثال، منجزات بحجم الأهرامات الفرعونية في مصر وسور الصين العظيم تبدو وكأنها مشاريع استهلكت أوقاتاً طويلة لإنجازها ناهيك عن حجم الجهود البشرية والإمكانات المادية التي بُذلت من أجلها. لكن الممعن للنظر إلى مثل هذه الإنجازات البشرية لابدّ وأن يخرج بنتيجة مبدئية مفادها أنّ هذه الشعوب قد أدارت الوقت بشكل جيد ونظمته قبل أن تنجز هذه الأعمال، والواقع يثبت ذلك، فالأعمال العظيمة اليوم لابدّ وأن تسبقها خطة محكمة لإدارة الوقت وتنظيمه قبل الشروع بالعمل فيها وإلا دخلت عنق زجاجة التوقيتات الخاصة بالمشروع. وربّ قائلٍ يقول إنّ الوقت كان مفتوحاً أمام الفراعنة المصريين القدماء لبناء أهراماتهم، إلا أنّ الشواهد التأريخية تقول غير ذلك، فتلك الشعوب والأُمم الغابرة كانت تعيش التحديات والصراعات والحروب والأزمات والكوارث بشكل يكاد يكون يومياً، وعليه فإنّ إدارة الوقت وتنظيمه كانت أمراً محتوماً ولا جدال فيه. وإنّ الآراء التقنية والفنية التي تناولت الأهرامات تؤكد أنّ العمل بموجب جداول زمنية محددة مع توزيع دقيق للوقت قبل الشروع بالعمل في بنائها وخلال ذلك إنما هو أمر بديهي بسبب الهندسة الدقيقة التي استخدمت لإنجاز هذه الصروح العملاقة. بل إنّ هنالك من بين الآراء التقنية المتخصصة ينص على أنّ عملية رفع الأحجار التي تكوّن الهرم الواحد تم بموجب توافق زمني دقيق للغاية من جهاته كافة ما يدل على اعتناء شديد بالوقت وتنظيمه.

ثمّ جاءت بعد ذلك الحضارة العربية الإسلامية التي أسست دولة حضارية – ربما هي من أعظم الدول الحضارية التي قامت عبر التأريخ – في غضون عقود قليلة من الزمن، ويزخر تراث هذه الحضارة بالنصوص المقدسة والتأريخية والعملية لإدارة الوقت وتنظيمه، فالعديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال ووصايا الحكّام والصالحين والعلماء كلّها ترفع قيمة الوقت وإدارته وتنظيمه ابتداءً بمواقيت الصلاة وتوقيتات العبادات الأخرى كالصوم والزكاة والحج. وقد شهد العصر العباسي ظهور المدارس العلمية التي أدارها علماء رسخوا الأسس الصحيحة للبحث العلمي الذي يقوم على ركائز منها بلا شك الوقت وإدارته، حتى تكلل ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – بصناعة أوّل ساعة مائية في التأريخ في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد والتي أهداها لشارلمان ملك فرنسا، فضلاً عن نتاج هذه الحضارة الذي امتد لأيامنا هذه من خلال العلوم والمعارف التي أرسى أسسها وأصولها العلماء العرب المسلمون الذين اعتادوا احترام الوقت وحسن إدارته وتنظيمه.

في ظل الواقع المعاصر، نجد أنّ السمات الثقافية للمجتمع تلقي بظلالها على إدارة الوقت وتنظيمه عند مختلف المستويات في المجتمع، وإنّ ارتفاع المستوى الثقافي في المجتمع يرافقه غالباً حسن إدارة الوقت وتنظيمه، مع استثناءات قليلة للغاية فأولى بوادر الثقافة في المجتمع تتمثل في الأخلاق العامة والنظافة العامة واحترام الآخر وبلا شك ارتفاع قيمة الوقت والاهتمام به. وإنّك لا تجد إنساناً على قدرٍ عالٍ من الثقافة في مجتمع مدني متحضر ينام ساعاتٍ تتجاوز ربع عدد ساعات اليوم الواحد (8 ساعات) لأنّ الحفاظ على المكتسبات الثقافية والمدنية وتطويرها وتعزيزها هو أمر بحاجة إلى الوقت. ومع ذلك، فإنّ هذا الكلام لا يمثل قانوناً أو نظرية طبعاً، فهنالك من بين شعوب الأرض من لا ينامون إلا ساعاتٍ قليلة لكنك تجدهم في مؤخرة ركب الثقافة والمدنية اليوم، والسبب طبعاً هو فقدانهم لعناصر أخرى مهمة من عناصر اكتساب الثقافة والمدنية أو أنّهم لا يديرون الوقت المتاح لهم كما ينبغي، وبالتالي تهدر الساعات الطويلة التي يقضونها "مستيقظين" بأمور ونشاطات وفعاليات لا طائل منها. وهنا يمثل النمط للتفكير لدى أفراد المجتمع عنصراً حاسماً للغاية.

لنسق مثالاً بسيطاً جدّاً للتعبير عن النمط الثقافي في التفكير لدى الشعوب. لو وقف عشرون طائر على غصن شجرة وقام صياد بتصويب بندقيته تجاه تلك الطيور ثمّ أطلق النار وأصاب واحداً منها، ثمّ توجهت بالسؤال التالي إلى أناسٍ من ثقافات مختلفة: "ما هو عدد الطيور المتبقية على غصن الشجرة؟". هنالك من سيجيبك على الفور أنها تسعة عشر طائر فقط، وقد يجيبك آخر أنّه لم يتبق أي طائر فوق الغصن، وقد يجيبك ثالث وفقاً لمفهومه أنّ طائراً واحداً فقط هو الذي بقي فوق الغصن. ولكلّ من هذه الإجابات مبررات عقلية نابعة من ثقافة الفرد والمجتمع، فصاحب الإجابة الأولى قد يكون إنساناً يعيش في مجتمع مدني متحضر لم يشاهد بأم عينيه يوماً رجلاً يصيد الطيور فاعتبرها مجرد مسألة حسابية بسيطة، أما الثاني فلعله عاش أو يعيش في مجتمع قروي اعتاد صيد الطيور كجزء مهم من حياته اليومية، فيما قد يبدو الثالث يعيش في مجتمع ذي توجهات فكرية معقدة إلى حد ما فافترض أنّ ما بقي على الغصن هو الطائر الذي أصابته الإطلاقة فلم يسقط فيما طارت الطيور الأخرى خوفاً من الإطلاقة. ولعل القارئ الكريم استنتج مبررات ومنطلقات كلّ منهم في الإجابة عن السؤال.

خلاصة القول، إنّ واحدة من أهم ركائز المجتمع المثقف والمتحضر هي احترام الوقت وإدارته وتنظيمه وصولاً إلى استثماره بالشكل الأمثل.

إنّ إدارة الوقت تتأصل بعمق في ثقافة المجتمع من خلال نمطين أساسيين هما النمط الخطي والنمط المتراكب، ففي النمط الخطي تتضمن إدارة الوقت أداء مهمة واحدة من قبل الشخص الواحد مع تخطيط دقيق وأهداف واضحة واتجاه محدد وفاعلية عالية وهيكلية رصينة مع ضعف الجانب الاجتماعي في العمل الذي يبدأ مبكراً وينتهي مبكراً خلال اليوم مع تثمين لكفاءة الأداء وتحديد واضح للسياقات والمسارات التي يتبعها العمل. أما في النمط المتراكب فإنّ هنالك عدة أشخاص يقومون بعدة مهام في وقت واحد مع تخطيط ضعيف نسبياً وأهداف غير واضحة غالباً وتوجيه اجتماعي للعمل وفاعليه أقل وهيكلية مرنة مع قوة وشيوع الجانب الاجتماعي في العمل الذي يبدأ متأخراً في الصباح وينتهي متأخراً بعد الظهيرة مع اعتبار كفاءة الأداء أقل أهمية من الإنسان وانّ السياقات والمسارات التي يتبعها العمل غير محددة بشكل كامل أو أنّها محددة ولكن لا يتم إتباعها. تحدد تقارير المنظمات الدولية المختلفة دولاً معينة كأمثلة لهذين النمطين، فالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وألمانيا وسويسرا والدول الإسكندنافية هي أمثلة للنمط الأوّل، وتعد دول أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وجنوب إيطاليا واليونان أمثلة للنمط الثاني، فيما تمثل أستراليا مثالاً يجمع بين النمطين أعلاه. كذلك فإنّ مقاطعات ومناطق ومدن البلد الواحد يمكن أن تتباين في النمط المتبع، ففي مدينة مثل نيويورك على سبيل المثال يفكر الناس بالوقت وإدارته واستثماره بشكل مختلف إلى حد بعيد عن طريقة تفكير الناس في مدن الغرب والجنوب الأمريكي.

والسؤال هو أي النمطين أفضل من الآخر؟

إنّ الأميركي الذي يزور إيطاليا للمرة الأولى يمكن أن يدهشه إلى حد بعيد تدني كفاءة الأداء، فيما يرى الإيطاليون أنّ الأميركيين يهتمون بالأشياء والمؤسسات أكثر من اهتمامهم بالإنسان. وهذا الكلام بجزأيه قد ينطبق على العراقي الذي يزور دبي لأوّل مرة والعكس.

ولعل الحل الناجع يكمن في المزج الإيجابي ما بين النمطين بحيث أنّ الإنسان من أي ثقافة كانت يستمتع بالحياة في ظل مجتمع منظم يولي أهمية كبيرة للوقت واستثمار، ونتحدث هنا عن ضرورة التكيف مع المحيط بجوانبه الثقافية أوّلاً ومن ثمّ بجوانبه الأخرى، فإنّنا نجد أنّ الطالب العربي المبتعث إلى بريطانيا مثلاً يعود إلى بلاده بعد إكمال دراسته وقد اعتاد على حياة المجتمع البريطاني، فتراه يعاني من حالة تدني كفاءة الأداء في مجتمعه على الرغم من الاهتمام الاستثنائي الذي يحيطه به هذا المجتمع فيعتبره كفاءة علمية وربما ثروة وطنية. ►

 

المصدر: كتاب مهارات إدارة وتنظيم الوقت

ارسال التعليق

Top