• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البعد المعنوي للحجّ

البعد المعنوي للحجّ
◄حيث نحن اليوم في أجواء موسم أداء فريضة الحج المباركة، من الضروري أن تكون لنا التفاتة إلى الأبعاد العرفانية والمعنوية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهذه الفريضة، وليكن ذلك ممهداً لخطوات مؤثرة أخرى. لقد تحدث كثير من الأصدقاء الملتزمين، في هذه الموضوعات. لذا سأكتفي بإشارات خاطفة إلى بعض أبعاد الحج؛ علّها تكون فاتحة للتأمّل في هذه الفريضة المباركة. ونظراً لما تتضمّنه هذه المناسك العجيبة - بدءاً بالإحرام والتلبية وحتى آخر المناسك - من إشارات عرفانية ومعنوية يتعذر تفصيلها في هذا المقام، فسأكتفي بذكر بعض أبعاد التلبية. التلبية المتكرّرة، إنّما تكون صادقة من الذي يستمع إلى نداء الحق بروحه، ويلبّي دعوة الله تعالى بالاسم الجامع. فالمهمّ هو الحضور في محضر الحق، ومشاهدة جمال المحبوب؛ وكأنّ المتحدّث في هذا المحضر يكرّر التلبية وقد تحرّر من ذاته، ونفي الشريك بمعناه المطلق الذي يدركه أهل الله، لا الشريك في الأُلوهية فحسب، وإن كان التجريد من الشريك في نظر العرفاء - يشمل جميع المراتب حتى فناء العالم، ويضمّ الدرجات الاحتياطية والاستحبابيّة كلّها نظير: "... الحمد لك والنعمة لك..."، ويحصر الحمد بالذات المقدسة، والنعمة أيضاً، وينفي الشريك. ويعدّ ذلك لدى أهل المعرفة غاية التوحيد. ومعنى هذا أنّ كلّ حمد ونعمة يتحقّقان في عالم الوجود، هما حمد ونعمة من الله بلا شريك؛ وإنّ هذا المعنى السامي متحقّق وجارٍ في كلّ موقف ومشعر ووقوف وحركة وسكون وعمل. ويقابله الشرك بالمعنى الأعم الذي نُبتلى به جميعاً أصحاب القلوب العمياء. إنّ المراتب المعنوية للحج - التي هي ذخيرة الحياة الخالدة وتُقرِّب الإنسان من أُفق التوحيد والتنزيه - لن تتحقّق، مالم تترجم أحكام الحج العبادية بصورة صحيحة ودقيقة ولائقة. لذا ينبغي للحجاج الكرام وعلماء الدين المحترمين المرافقين لقوافل الحجاج، أن يكرِّسوا جهودهم في تعلّم وتعليم مناسك الحج. وعلى الذين يحيطون بشعائر الحج ومناسكه أن يوجّهوا مَن برفقتهم لئلا يتخلّف أحد عن الأحكام الإلهية. فالبعد السياسي والاجتماعي للحج لن يتحقق ما لم يتجسّد بُعده المعنوي والإلهي عملياً، وما لم تكن تلبياتكم استجابة صادقة لدعوة الحقّ تعالى؛ وما لم تُحرم ذواتكم للوصول إلى أعتاب محضره؛ وتنفوا الشريك بكلّ مراتبه ودرجاته وأنتم تلبّون دعوة الحق؛ وتهاجروا من ذواتكم، التي هي مصدر الشرك الأكبر، إلى الله جلّ وعلا. يؤمّل للذين ينشدون ذلك، أن يدركهم الموت الذي هو بعد الهجرة وقد نالوا الأجر الذي هو على الله. وإذا ما تمّ تجاهل الجوانب المعنوية، فلا تتصوّروا أن بإمكانكم أن تتحرّروا من قبضة شيطان النفس. وما دمتم في أسر ذواتكم وأهوائكم النفسانية، فلن تتمكّنوا من الجهاد في سبيل الله والذَّوْد عن حريمه. . أنتم الآن في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة، وإلى جوار بيت الله تعالى المفعم بالبركة؛ لابدّ من مراعاة آداب الحضور في محضر الذات الأقدس، وتحرر قلوب الحجاج الكرام ممّا يشدّها لغير الله، وتجرّدها من كلّ ما هو غير المحبوب، وتنويرها بأنوار التجلّيات الإلهية؛ لكي تتزيّن أعمال ومناسك هذا السير إلى الله بمحتوى الحج الإبراهيمي فالمحمّدي. وبتجردهم من أفعال الطبيعة، يعود الحجاج إلى أوطانهم محررين من أوزار الـ"منى" والأنا، بعد أن تزوّدوا بمعرفة الحق وعشق المحبوب. وبدلاً من الهدايا المادية الفانية، يحملون إلى أصدقائهم إنجازاتٍ أبدية خالدة، ويلتحقون بعشّاق الشهادة بأكفٍّ محمّلة بالقيم الإنسانية - الإسلامية التي بُعث من أجلها الأنبياء العظام بدءاً بإبراهيم خليل الله وانتهاءً بمحمّد حبيب الله - صلوات الله عليهم وآلهم أجمعين -. فهذه القيم والأهداف هي التي تنقذ الإنسان من أسر النفس الأمّارة بالسوء والتبعية للشرق والغرب، وتلحقه بالشجرة الزيتونة المباركة اللاشرقية واللاغربية. اعلموا أنّ سفر الحج ليس سفر كسب أو تحصيل دنيا؛ بل هو سفر إلى الله، ولابدّ لكم وأنتم تتّجهون إلى بيت الله الحرام، أن تؤدوا كلّ أعمالكم بصورة إلهية. إنّ سفركم هذا "وفودٌ" على الله. سفرٌ إلى الله تبارك وتعالى، لذا لابدّ لكم من الاقتداء بالأنبياء العظام - عليهم السلام - والأئمة الأطهار، الذين كانوا في سفر دائم إلى الله في كلّ أدوار حياتهم ولم يتخلفوا خطوة واحدة عن السير إلى الله. ها أنتم أيضاً وافدون على الله تعالى. فعندما تصلون الميقات تقومون بالتلبية لله؛ أي: أنت دعوتنا - يا رب - ونحن أجبناك. حذارِ من ارتكاب عمل يدعو الله تبارك وتعالى لأنّ يردّكم: كلا، لن أقبلكم لأنكم لستم إسلاميين.. حذارِ أن تجعلوا هذا السفر سفر تجارة دنيوية، أيها السادة العلماء، ورؤساء القوافل، وسائر الحجاج. انّه سفر إلى الله وليس سفراً إلى الدنيا، فلا تتلوّثوا بالدنيا. من الأُمور المهمّة في جميع العبادات، الإخلاص في العمل. فلو أدّى أحدٌ - لا سمح الله - عملاً بدافع التظاهر والتفاخر ولفت الأنظار، واعتبر حسن أدائه ميزة يتعالى بها على الآخرين، فإنّ عمله باطل. لذا على الحجاج الكرام أن يحذروا من إشراك رضا غير الله في أعمالهم. إنّ الأبعاد المعنوية للحج كثيرة؛ وأهمّها هو أن يعلم الحاجٌ إلى أين يتّجه؟ ويجيب دعوة مَن؟ وسيحلّ ضيفاً على مَنْ؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟. ويجب أن يعلم أيضاً أنّ كلّ أنانية وغرور يتعارض مع حبّ الله، ويناقض الهجرة إلى الله، ويقود إلى انتفاء معنوية الحج. فإذا ما تحقق هذا البعد العرفاني والمعنوي للإنسان وتحقّقت التلبية المقرونة بنداء الحق تعالى حقاً، فسينتصر في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى العسكرية. وإنّ مثل هذا الإنسان لا يعرف معنىً للهزيمة. نسأل الله تعالى أن ينعم علينا بنفحة من هذا السير المعنوي والهجرة الإلهية. على الأشخاص الذين يتشرّفون بالذهاب إلى الحج، أن يحذروا من اقتران حجّهم - لا سمح الله - بمعصية في لحظة ما. بل يجب أن يكون كلّه إسلاماً، وكلّه عبادة. يجب أن تكون المسيرات عبادة لا معصية. والشعارات كذلك، أي أن تكون من أجل الله، لا أن يردّد كلّ واحد ما يحلو له، وينطق بسوءٍ متى ما أراد. وينبغي التحضير لهذه الأُمور وفق برنامج سليم يتمّ إعداده مسبقاً يأخذ بنظر الاعتبار كلّ ذلك.►

 المصدر: مجلة مقيات الحج

ارسال التعليق

Top