• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«كلما تقدم العلم» ازداد حجم ما نجهله

أ. د. عبدالكريم بكّار

«كلما تقدم العلم» ازداد حجم ما نجهله

◄وصف الله – تعالى – الإنسان بأنّه شديد الجهل حيث يقول – عزّ وجلّ –: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72). يقول ابن عباس – فيما روي عنه –: (الأمانة: هي الطاعة، وقد عرضها الله – تعالى – على السماوات والأرض... قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها. فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب ما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم، فتحملها، فذلك قوله: (وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72).

إنّ الإنسان جهول، وجهله يعود إلى أنّه لا يملك المقدرة العقلية، كما أنّه لا يملك الطاقة الروحية ولا الأدوات المطلوبة لمعرفة ما يجري من حوله على نحو جيد فضلاً عن أن يعرف ما يجري في أماكن بعيدة عنه، وتدل الآية المباركة التي أوردتها على أن شدَّة جهل الإنسان تؤدي به إلى اتخاذ القرارات الخاطئة، إنّ الإنسان لا يعرف الموقف المناسب، ولا التصرف المطلوب تجاه الكثير من الأحداث. ويمكن أن نذكر في سياق جهل الإنسان شيئين مهمين:

الأوّل: هو أن ما يعرفه الإنسان اليوم في شتى مجالات الحياة، ربما يزيد ألف مرة – في المتوسط – عما عَرَفَه الإنسان قبل خمسة قرون، وكما قال أحد المفكرين: إن طالباً في السنة الثالثة في كلية الطب، لديه معلومات طبية أفضل وأكثر وأوثق من المعلومات التي كانت لدى علامة كبير مثل شيخ الأطباء ابن سينا. وهذا يعود إلى أنّ الجسم المنظَّم من المعرفة هو من الضخامة إلى درجة لا يمكننا معها إجراء أي مقارنة بينه وبين ما كان سائداً قبل قرنين من الزمان. وأدوات الإنسان في الاطلاع على العالم وعلى الكون قد طرأ عليها تطورات وتحولات جذرية، ويكفي ما أتاحته الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) للبشرية من معرفة، يحتاج المرء إلى عمر أطول من عمر نوح حتى يطّلع على جزء صغير منها.

الثاني: هو أن صفة الجَهول التي وصف الله – تعالى – بها الإنسان ما تزال لصيقة به رغم كثرة ما يعلم اليوم، بل إن جدارته بالجهل تزيد، وذلك لأن ما لا يعرفه ينمو على نحو مطّرد، كلما ازداد تراكم المعرفة وكثر المشتغلون بها، وإن هناك من الدراسات ما يشير إلى أنّ المعرفة العالمية تتضاعف (كلّ سبع إلى عشر سنوات)، كما أنّ من الدراسات ما يشير إلى أن نصف العلماء الذين وجدوا على هذه الأرض منذ بدء الخليقة يعيشون الآن بيننا. ولهذا فإنّ الواحد منا إذا كان يعرف اليوم (2%) مما هو منشور في مجال تخصصه فإنّ هذه النسبة ستكون أقل بعد عشرة أيام، فنحن لا نستطيع أن نطّلع إلا على جزء ما ينشر، وهناك معلومات كثيرة جدّاً لا تنشر، وليس هناك أي سبيل للاطلاع عليها.

ومن المهم في هذا السياق أن أنبِّه على أنّ الجهل لدى الإنسان ليس وليد عدم الاطلاع فحسب، إنّ الأمر أعقد من ذلك بكثير، ولعلي أوضحه في النقاط الآتية:

1-    علينا ألا ننظر إلى عقل الجاهل على أنّه عقل فارغ، إنّه عقل مملوء بالشائعات والتصورات المنحرفة وبالخرافات والمعلومات والقواعد غير المدقَّقة ولا المختَبرة، إنّ الطبيعة – كما يقولون – تأبى الفراغ، ولهذا فإنّ المخيال الشعبي يملأ عقول أصحابه بكل الأفكار والمفاهيم التي توفر لهم بنية معرفية منسجمة ومفهومة... ولهذا كله فإن تاريخ العلم هو تاريخ الصراع بين الأوهام والخرافات القديمة والمعشِّشة في الرؤوس وبين الأفكار والمعلومات والحقائق الجيدة والممحَّصة.

2-    الإنسان جهول لأنّه في كثير من الأحيان لا يعرف أنّه لا يعرف، وهذا ما سموه بالجهل المركب، إنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف أنّه غارق في الأوهام، وأن ما لديه من العلم محدود جدّاً أو مشوَّه... إلا إذا أمكن تعريضه لتيار قوي جدّاً من المعارف الجيدة، وحتى هذا قد لا يفيد في بعض الأحيان، فيحتاج تكوينه المعرفي إلى ما يشبه العمل الجراحي حتى نفتح فيه بعض الثغرات.

3-    إنّ للإنسان طاقة محدودة على معالجة المعلومات التي تفد إليه من كلّ حدبٍ وصوب، ولهذا فإنّ هذا الدفق الهائل من الأخبار والتحليلات والمكتشفات... قد أوقع كثيراً من الناس في ارتباك شديد، فضلوا في محاكماتهم العقلية، وصدر عنهم الكثير من الرؤى والآراء الفجّة والمبتسَرة. وكثيرون منا يلجؤون في مثل هذه الحال إلى (الانتقاء) كما يفعل المؤرخ حين يأتيه عشر روايات متضاربة في حادثة من الحوادث، إنّه سيغض الطرف عن بعضها، ويعتمد بعضها الآخر، وهذا العمل في حد ذاته هو مصدر كبير من مصادر الخطأ ومجانبة الصواب.

 

·      هل يعني هذا شيئاً؟

إنّه في الحقيقة يعني الكثير من الأشياء، لعل من أهمها:

1-    الكتّاب والعلماء والمفكرون والمعلمون وكلّ المهتمين بالشأن الثقافي مطالبون بتوعية الناس بمسألة زيادة الجهل في حياتهم، وتوعيتهم بمنابعه ومساراته وكيفية التعامل معه، وإنما نقول ذلك لأن من غير الممكن لأي أحد أن يتخلص من الجهل، وأن يعرف كلّ ما ينبغي أن يعرفه.

2-    نحن – معاشر المثقفين – في حاجة إلى أن نتحدث عن شيء من جهلنا ومن إخفاقاتنا على صعيد التعلم وعلى صعيد التعامل مع المعرفة، وقد يكون من المفيد أن نتحدث عن المسائل غير المحلولة، وعن مسالك الاجتهاد الضيقة في بعض القضايا، كما نتحدث عن شح المعلومات في موضوع من الموضوعات، وعن عدم إمكانية الوصول إلى رأي سديد في بعض المشكلات. إنّ هذا سيكون مفيداً للغاية بالنسبة إلى عامة الناس وإلى المبتدئين من طلاب العلم خاصة.

3-    إنّ بناء العقلية المنهجية الممتازة سيمكِّننا من أن نتعامل مع ما نعرف على نحو جيد، كما يمكِّننا من أن نأخذ بعين الاعتبار ما لا نعرف، فنراعيه في أحكامنا وقراراتنا وحواراتنا.

4-    تنظيم أوقاتنا على نحو أفضل والانكباب على القراءة والتعلم وجني المعرفة بكل ما نملك من عزيمة وإرادة وقوة.►

 

المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا)/ ثلاثون سنّة إلهية في الأنفس والمجتمعات

ارسال التعليق

Top