• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

اللوحـة القديمـة

فاطمة المزروعي

اللوحـة القديمـة

 

راحت ساقاي تلهثان من التعب، وقد أنهكهما وقوفي منذ الصباح حتى حلول المساء. لم أجد أمامي سوى أن أمرنهما قليلاً، وكانت عيناي تتجهان إلى المقعد الطويل، الذي لم يكن يبعد كثيراً عن غرفة العناية المركزة. وسرعان ما لاحت لي وجوه إخوتي المتعَبة، وعيونهم التي تذرف الدموع. وحدي أنا فقط ظللتُ صامتاً، صامداً كالجبال، وعيناي جامدتان، حتى إنّ الجميع نظروا إليَّ باستنكار، وكأنّ الأمر لا يعنيني. ولكن لا، كانت أعماقي تغلي وتفور كبركان على وشك الإنفجار، وودتُ لو أصرخ وأصرخ في كل الوجوه التي ألمحها منذ الصباح، تجري هنا وهناك في ممرات المستشفى، وعلى الرغم من التعب الذي أنهك جسدي، حتى باتت أوصالي تئنّ وتزأر طلباً للراحة. اتَّجهت إليهم وقلت محاولاً أن أُكسب صوتي مزيداً من الهدوء: "اسمعوني، لماذا لا تذهبون جميعاً إلى المنزل، إنكم في حاجة إلى الراحة؟". رفعوا إليَّ عيوناً مستنكرة، حتى شقيقتي الصغرى رمقتني بنظرة حادة، وكأني طلبت منها أمراً معيباً، وبدأ هجومهم عليَّ كالمعتاد. "أنت رجل بلا شخصية، بارد العواطف، لا رأي لك أبداً، لا تهتم سوى بكلام الكتب الذي تحفظه دوماً (..) لم تكن معها أبداً، بل كثيراً ما كنت تلومها حتى حينما دخلت الجامعة". لم أستطع سوى الصمت أمام عباراتهم القاسية، بل كدت أبتلع لساني داخل حلقي، حتى لا يتحول الحديث بيننا إلى مشادة ومشاجرة أمام الأطباء. "حالتها خطيرة قد تموت ترحل من هذه الدنيا، ألم ترَ الظلم في عينيها؟". صفعاته لا تُنسى، صراخه المتكرر لايزال يدوّي في أذني. "كم مرة رددها أمامها؟: تزوجتك رحمة بوالدك الفقير، ورأفة بك حينما اشترى الدائنون منزلكم، وتحمّلتك كل تلك السنين". آهٍ من كلامه القاسي وعباراته التي يلقيها كالجمر، الذي يسقط من أتون على وشك الإنفجار. -                لا أذكر من هذه الحياة سوى أني كنت طفلاً صغيراً، لم أكن أصغر إخوتي، بل كنت أوسطهم. كانت عيْنَا أُمّي تتابعانني كلما خرجتُ من المنزل، قلبها يرتعد من الخوف كلما عدت وفي رأسي جرح إثر مشاجرة مع بعض أولاد الحي. أمّا أبي، فلم أعرف عنه سوى صورة غامضة أو متناقضة، ووجه صارم، وملامح قاسية، جامدة، تحمل الصلابة أكثر مما تحمل الرحمة بين طياتها. -                أعترف بأنّه كان يخيفني، لم يكن ليسمح لي بالحديث معه، حتى إبتسامة حب لا أظن أنّه منحني إياها، كنت أخشى غضبه كثيراً. فإذا رآني ألعب مع أولاد الجيران، رمقني بنظرة صارمة تثير في نفسي الرعب والخوف. لم أقوَ يوماً على مواجهته، حتى حينما كنت أراه يضربها أمامنا، كنت متأكداً من أنها تتألم، نظرة الحزن وحدها التي أراها في عينيها دليل كافٍ على عذابها. كنت الوحيد المختلف عن إخوتي، سواءُ في ميولي أم أحلامي، كنت مؤمناً بأنّ الحياة ستتغير يوماً، ولن تتكرر تلك اللوحة التي أراها يومياً، عجزها يؤرقني ويبعث داخلي إحساساً بالفشل من عدم استطاعتي مساعدتها. لم يقف أحد في صفّه من إخوتي. وفي الوقت ذاته، لم تكن لديهم الجرأة حتى ليعترضوا على كلامه. ذات مرة، كنت عائداً من الخارج وتصادَف أنّ الاثنين كانا يتشاجران معاً كالمعتاد. كان يلقي عليها وابلاً من عبارات السب والشتم، وهي تكتفي فقط بنظرة حزينة ترمقه بها، تحاول أن تدافع عن نفسها، أو تقول له شيئاً، دوماً يرددها أمامها، "تزوجتك رغماً عني". وبعد أن أهانها وخرج كالمعتاد من دون أن يسألني أو يتحدث معي، علماً بأنني لم أكن لأبالي به، عدت أنظر إليها نظرة عادية وكأنني اعتدت على رؤيتها بهذه الصورة. رمقتني وصاحت فيي تؤنبني على تأخري لهذه الساعة، ثمّ ضربتني، ربّما لتفرغ إنفعالاتها. ويومها صحت فيها وشتمتها من دون قصد مني، المهم أنها سارعت إلى غرفتها وأغلقت الباب على نفسها وغرقت في بحر من البكاء. -                مَن ينظر إليها يُخيل إليه أن حزنها يتضاعف كل يوم. خذلتْها أسرتها، توفي والدها تاركاً الأسرة غارقة في الديون. حتى إختها تخلوا عنها، ومنذ أيام عديدة، جاءت الشرطة إلى المنزل تبحث عن شقيقها، لأنّه متهم بسرقة سيارة رجل ثري وقد فرّ بها. هذا الحادث لم يمر من دون شجار، لقد أهانها، شتمها، صاح فيها بأنّه يخجل من الخروج أمام رفاقه، وشقيق زوجته مجرم. أنا لم أجد مبرراً لضربها، فإذا كان شقيقها مجرماً، فما ذنبها؟ وعلى الرغم من أنّ الأيّام تمضي، إلا أنّ الصورة لا تزال تتكرر يومياً، بكل تفاصيلها وملامحها. لم يتغير فيها سوى شيء واحد فقط: لقد بدأ الوهن والقِدم يتسللان إليها، حتى ألوانها بهتت شيئاً فشيئاً. لم تعد كالسابق، بدت أشبه بشبح على وشك الموت، عظامها بارزة، وعيناها غائرتان، صوته لم يخفت، لايزال يعلو ويعلو، على الرغم من وهن جسده. إخوتي كبروا وكبرت طموحاتهم، بعضهم سافروا والبعض الآخر تزوج. وبقيت أنا فقط، حلمي بالإلتحاق بالجامعة يُداعب خيالي، لم أجد أحداً يعترض وحتى ولو فعلوا ذلك، لم يكن ليقف أمام طموحي شيء. الدراسة في الجامعة، أشبه بجواد جامح لا تستطيع إيقافه، إلا بكل مهارة وقوة، وهكذا راح عقلي يلتهم وينهَم كل المعلومات التي أجدها في الكتب، عالم جميل ومختلف. إنّه يحاول أن يجذبني بعيداً عن تلك اللوحة القديمة التي يختزنها عقلي. -                أصبحَت الكتب عالمي، حتى رحت أسْبَح بينها كسمكة ماهرة، إذا حاول أحدهم إخراجها من الماء اختنقت ولفظت أنفاسها. تبّاً لذلك الخدر الذي أصاب ساقي، اللوحة القديمة لاتزال تؤرقني وتكاد تستولي على عقلي وتلتهمه، إنّها تظل أمامي كل لحظة. أحاول الخروج من دوّامتها فلا أستطيع، تظل أمامي بتفاصيلها وملامحها وألوانها الباهتة، فكل ما حدث أن أفرادها يكبرون وملامحهم تذبل، وعيونهم تفقد بريقها، ولكنها تظل أمامي. ومات هو في حادث سيارة، لا أعتقد أن أحدهم بكى عليه، ولكني رأيتها تبكي بحرقة. ربّما تفتقده كثيراً، وإلا لما بكت هكذا. لاتزال نظراتها تعاتبني كلما غادرتُ المنزل أو عدت إليه، وهي جالسة أحياناً أمام النافذة ترمق السماء بنظرة شاردة، أو تنظر إلى الطيور تحلق عالياً، حيث أرى في عينيها رغبة في الرحيل، وكأنّما يؤرّقها أن يغادر هو اللوحة ويتركها تتعذب فيها، وهذه المرّة من الوحدة. عدت إلى المنزل بعد محاضرتي في الجامعة قبل الظهر، ووجدتها ممدَّدة على الأريكة التي اعتادت الجلوس عليها، كانت مغمضة العينين، شعرت بالخوف عليها لأوّل مرّة. لا، ليست هذه المرة الأولى، كثيراً ما كنت أشفق عليها وأتعاطف معها، ولكن بيني وبين نفسي. نظرة اللامبالاة التي ترونها في عيني صنعتها الظروف، اقتربت منها أكثر، ولكنها كانت لا تتحرك، أسرعت بها إلى المستشفى، وها أنذا واقف كتمثال صلب لا يتحرك، وعيناي لا تبرحان باب غرفة العناية منذ قدمت إلى هنا. إخوتي كلهم جاءوا بعد إتصالي بهم، نظراتهم القاسية تتجه إليّ كالمعتاد. كنت الوحيد الذي رأى كل شيء، ومع ذلك آثرتُ الصمت، لم أدافع عنها ولم أقف أمامه حينما كان يضربها. واستيقظت من شرودي لأجد أمامي الطبيب، رأيت في عينيه خوفاً مبهماً، وحينما بدأ في الحديث، فوجئت بإخوتي يتحلقون حولي. كل واحد يريد معرفة مرضها، ولكن الطبيب لم يقل سوى بضع كلمات غير مفهومة، استطعت من خلالها أن أعرف أنّها في حالة خطيرة، وإذا استمرت هكذا حتى هذه الليلة قد تفارق الحياة. بعدها، سمح الطبيب لنا برؤيتها، ولكني ترددت للحظة، وكنت أرتجف وكأنّني ليست عندي رغبةً في رؤيتها. إلا أني عدت ودخلت الغرفة بخطوات بطيئة، ورفعت عيني لأجدهم يحيطون بها. بدَت لي في تلك اللحظة وكأنّها فارقت الحياة، كانت نظرات عينيها تتجه إليَّ لتُحدّق بالنظرة نفسها، كنت أحاول أن أتحاشاها، ولكن من دون جدوى، إنّها تحاصرني بطوق لا أستطيع الخروج منه. مدت يدها إليَّ، شعرت بأن شفتيها تتحركان لتنطقا باسمي، ارتجف قلبي، وصحتُ في داخلي، إنّها تريدني. ولكن، هل ستعاقبني؟ راحت ساقاي تدفعانني إليها. ربّما تغفر لي، ربّما. اقتربت منها أكثر، والتقطت يدها وقرّبتها من وجهي وأنا أتحسسها. لم أشعر يوماً بحنانها ولم أرَ يوماً إبتسامتها. وكأنّ الزمان خطفها وأودعها في مكان خفي. راحت يداها تتحسسان شَعري بحنان دافق. ووجدت اللوحة أمامي وقد بدأت تتغيّر. ألوانها أصبحت زاهية أكثر، وتفاصيلها أصبحت أرق وأجمل، كل شيء فيها تغيّر. أرادت الحديث ولكنها عجزت وراحت تنظر إليَّ بعينيها اللتين رأيت فيهما عتاباً. وفي تلك اللحظة، ماتت بعد أن ودّعتني بالنظرة نفسها التي حملت الحزن والعتاب. لماذا لم أقف أمام جبروته وتسلّطه؟ لماذا لم أمنعه من ضربها؟ لماذا لم أصرخ فيه؟ لماذا؟ فجأة، وجدت نفسي أبكي. لم يعد لكلام الكتب أي قيمة. حتى الجامعة لم يعد لي فيها أي طموح. كل شيء انتهى. واليوم، سوف تضمّني تلك اللوحة إليها، وقد أقف إلى جوارها أو جاره، لا أحد يدري.

ارسال التعليق

Top