المسؤولية في الحياة:
يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال/ 27-29).
في هذه الآيات عدّة جوانب تتصل بحركة الإنسان في خط المسؤولية في الحياة، من خلال التزامه مع الله، والتزامه مع الرسول (ص)، والتزاماته الإنسانية في علاقاته بالنّاس، والله يعتبر كلّ ذلك عهداً لابدّ للإنسان من أن يفي به ويقف عنده ويتحمل مسؤوليته، لأنّ الإنسان قد يكون حراً في حركة ذاته من خلال ذاتياته، ولكنه عندما يحس بأنّه إنسان فلابدّ له من أن يحيا حياته بكلّ ما تفرضه الحياة من مسؤوليات.
نحن عندما نحيا في هذا الكون فعلينا أن نعرف أنّ حياتنا مسؤولية، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا لحكمة تتصل بحركتنا في الكون لنعمّر الكون على الصورة التي أراد لنا أن نعمّرها، وهو عندما أرسل رسله وفي مقدمتهم خاتمهم المصطفى (ص) فإنّه أراد لنا أن نتحرك في بناء الحياة على أساس هذه الرسالة، وتبقى لنا حرية الحركة في دائرة الرسالات لا في خارجها. والرسالة لا تحصر الإنسان في مفرداتها ليكون مجرّد إنسان ينفّذ تعليمات، بل إنّها جعلت له في كلّ تشريع من تشريعاتها، وفي كلّ مفهوم من مفاهيمها، جعلت له حرِّية الحركة في أن يبدع وأن ينتج وأن ينفتح وأن يتحرك في دائرة هذا الحكم الشرعي أو في دائرة هذا المفهوم الإسلامي. إنّ الله يريد أن يحدثنا عن التزاماتنا معه وقد عبّر عن ذلك بخطابه سبحانه وتعالى لبني إسرائيل، وليس الخطاب لبني إسرائيل. إلّا بلحاظ ما يمثلونه من نموذج ممن يتحمل المسؤولية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة/ 40)، فهناك عهدٌ بين الله وبين الإنسان وهو أن يعطي الإنسان ما يريد إعطاءه في الدنيا، وأن تنفتح له أبواب النعيم في الآخرة على أساس أن ينسجم الإنسان مع الخط الإلهي (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصّلت/ 30).
لذلك عندما ندرس هذه الآية (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة/ 40)، فإنّنا نعرف أنّ الله احترم الإنسان وهو خالقه، ورفعه إلى أعلى مستوى، والله اعتبر التزامنا معه والتزامه معنا عهداً، وهو يملكنا بكلنا ويملك ما نملك. قال لك لتكن لك إرادتك، ولتكن لك حريتك، وليكن لك خيارك، أنت عقل خلقته من أجل أن ينتج إنسانيتك، ينتج للحياة، لذلك فنحن عباد الله وعبوديتنا مطلقة، هناك عبودية فيما تعارف عليه الناس عندما يملك بعضهم بعضاً، لكنها عبودية من جانب آخر، ومن جانب واحد فتلك تسمّى "اعتبارية" أمّا عبوديتنا لله فهي "مطلقة" فنحن عبيده بكلّ وجودنا، لأنّ كلّ وجودنا منه، فنحن لا نملك وجوده، ومع ذلك عاملنا الله سبحانه وتعالى في علاقتنا معه علاقة معاهدة، أراد لنا أن نختار علاقتنا، أراد لنا أن نختار مصيرنا (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).
مارس حريتك في مصيرك، وتحمل مسؤولية ممارسة هذه الحرِّية، فيما تقبل عليه من حركة المصير، وبالتالي فعندما يقول الله هناك معاهدة بيني وبينك، فمعنى ذلك أنّ الله احترمك وأكّد لك إنسانيتك وأكّد لك ذاتك، وقال لك خذ حريتك، لكن كن الواعي وأنت تمارس حريتك، فالحرية ليست انفعالاً مزاجياً، وليست انحناءً أمام شهوة الحرية، إنما هي اختيار، والاختيار يعني أن تدرس وأن تدرس معناه أن تنظر القضايا من جميع جوانبها ليكون لك الخيرة في ذلك.
لذلك فعندما نريد أن ندرس موقعنا من ربّنا فعلينا أن ندرس مقام ربّنا وموقع ربّنا منّا وأن نعرف الله في مواقع عظمته ومواقع نعمته ثمّ نفي له ونخلص له، وهو الذي أعطانا كلّ شيء وهو الذي فتح لنا كلّ الآفاق لو وعيناها لما أمكننا إلّا أن نحبه. جرّب نفسك وأنت تحب الناس، لماذا تحب هذا وتحب ذاك؟ هذا لجماله، والله هو الذي خلق الجمال، وهذا لعلمه، وعلمه قطرة في بحر علم الله (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (الأنعام/ 59). وتحب ذاك لقوته (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165). ولعزته (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء/ 139). وتحبه لغناه (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ) (فاطر/ 15). المطلق وكلّ غني فغناه منه، هل تملك أن لا تحبه؟ ولكن بعض النّاس لا يفهمون ربّهم جيداً، إنّهم يعيشون الغفلة، ولذلك فهم يواجهون الموقف على أساس أنهم ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى مخلوق من مخلوقات الله (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزّمر/ 67).
الإيمان وعي:
لذلك كونوا مؤمنين، والإيمان وعيٌ في العقل وخفقةٌ في القلب وإقرارٌ باللسان وحركة في الواقع، ولا تخونوا الله الذي أعطاكم كلّ شيء واعطيتموه عهدكم، قد يقول قائل نحن لم نعطِ الله عهداً، لم يحدث أن تكلمنا معه، لكننا أعطينا الله عهداً من خلال وجودنا الذي ينطق وليس من الضروري أن ينطق لسانك، ولكن أن ينطق وجودك (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 172). كيف أشهدنا الله على أنفسنا، نحن لا نتذكر، فليس هناك "عالم ذر" ممّا نتذكّره في وعينا الذهني، إنما أشهدنا الله بوجودنا وبنفوسنا، بفطرتنا التي أعطت الشهادة وهي لا تزال تعطي الشهادة، ولذلك فالتزامنا أمام الله بفطرتنا هو أن نوحّده وأن نعبده لأنّ عمق وجودنا هو النافذة التي تنفتح على وجود الله، ولأنّ وجودنا ظلّ لوجوده فهو الوجود ونحن الظل، لا تخونوا الله في توحيده ولا تخونوا الله في عبادته لتعبدوا غيره، لا تخونوا الله في طاعته لتطيعوا غيره في معصيته ولا تخونوا الله في الاستغراق في غيره لتعبدوه له لا شعورياً (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة/ 40).
أمّا رسول الله (ص) فهو الذي يقدم الوسيلة التي نحب الله من خلالها، نحن نريد أن نحب الله ليبادلنا حبّاً بحب وإلّا فما قيمة الحب من طرف واحد؟ أنتم الشباب تعرفون في بعض تجاربكم أنّ الحب من طرف واحد حب فاشل وهو أن تحب من لا يحبّك أو يحبّك من لا تحبّه، نحن نريد أن تكون المحبّة بيننا وبين الله طرفين، على طريقة ما قاله النبيّ (ص) يوم "خيبر" لعليّ (ع) "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله" جاءنا رسول الله ليعطينا الوسيلة التي إذا حركناها أعلنّا حبّنا لله لأنّ حب الله لن يكون بغير هذه الطريقة.
حبّ الله:
حبّ الله ليس ابتهالات فقط، وليس ذوباناً في ذات الله بالطريقة الروحية، أو بالطريقة الشعورية (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) (آل عمران/ 31)، لأنني – وأنا رسول الله – لا أمثل نفسي، أنا لم آتكم بصفةٍ شخصية، فلقد ذابت صفتي في رسالتي، فليست شخصيتي معكم هي شخصية الاسم المنتمي إلى نسب، بل شخصية الإنسان المنتمي إلى رسالته، أنا رسول الله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) فعلامة حب الله أن تتبعني فيما أبلغتكم من رسالة الله، لأنّ (المحب لمن يحبُ مطيعُ) (يحببكم الله) فإذا أردت أن يحبك الله فعليك أن تحبه، ولن تحبه إلّا إذا أطعته لأنّه لا معنى في لغة المحبين أن تبتعد عمّن أحببت، وأن تعصي من أحببت:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه *** هذا لعمرك في الفعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إنّ المحبّ لمن يحب مطيعُ
وهكذا، لا تخونوا الرسول في رسالته ولا تنتموا إلى غير رسالته، ولا تأخذكم الأهواء من هنا وهناك فلابدّ لكلّ واحدٍ منكم أن يقف بين يدي الرسالة وبين يدي الرسول وبين يدي الله ليقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163)، فالإسلام أمانة الله عندكم التي يجب أن تملأ عقولكم ليكون عقلكم إسلامياً ولتكون قلوبكم إسلامية وحياتكم إسلامية، إذ لا معنى أن تكون مسلماً في عقلك وفاسقاً في قلبك، وكافراً في ممارستك، والإسلام وحدةُ اعتقادٍ في القلب وإقرار في اللسان وحركة في الواقع فمن يفصل بين أيّة واحدة منها يكون كمن يفصل بين الكلّ وأجزائه وأنتم تعرفون ما معنى أن يفصل الإنسان بين الكلّ والجزء.
(وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) (الأنفال/ 27)، والمجتمع هو عقد بين أفراده، لكلّ حقّ، وعلى كلّ واجب، وحركة الشخصية الإسلامية هي أن لا تشعر بأنّ لك الحقّ وحدك في المجتمع بل إنّ للآخرين حقوقاً. فلا تعتبر نفسك صاحب الحقّ الوحيد. فالزواج في الإسلام ميثاق غليظ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء/ 21). ولم يتحدّث الله في كلّ كتابه عن أي شيء بأنّه ميثاق غليظ كما تحدث عن الزواج وبذلك نعرف عمق العلاقة الزوجية في حساب عقد الزواج. إنّه ليس كلمة تقولها في البداية ولكنها من خط العهد المتبادل بين الرجل والمرأة الذي يؤكد الحقوق المتبادلة بينهما (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة/ 228). وبعض الرجال كما كنا نقول دائماً يعتبرون الدرجة بحجم ناطحات السحاب وأنتم تعرفون ماذا تمثل الدرجة من حجم في عالم المقاييس. لذلك علينا أن نعتبر الزواج أمانة متبادلة، فهي أمانة الله عندك وأنت أمانة الله عندها، فانظرا كيف تحفظان الأمانات.
وهذا السرُّ أمانة وقد يكون أضخم من أمانة المال لأنّ من الأسرار ما يهلك صاحبه ومن الأسرار ما يدمّر سمعة صاحبه، فالأصل أن لا تعطي سرّك لأحد إذا كنت تخاف من سرك، لأنك إذا كنت لا تحمل سرّك في صدرك أو لا تطيق حمله، فكيف يطيقه الآخرون، إنّ مسألة أسرارنا هي أنّ بعضنا يقول للبعض الآخر: هذا سرٌ لا تحدّث به أحداً وينطلق به هذا ويقول للثاني وهذا للثالث وكلّ يقول لا تحدث به، وهكذا يبلغ الآلاف وكلٌّ يوصي الآخر بأن لا يحدّث به غيره، وهناك حديث شريف "وليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا أن يكون خيراً" فهذا يعطيك مفهوم أنّ المجالس بالأمانات، فقد يتحدث إنسان في مجلس خاص فإذا أردت أن تنقله فعليك أن تستأذن صاحبه، فلعل صاحبه كان يشعر بالأمن من خلال وجودك من حوله، ولاسيّما إذا كان السرُّ مما يمكن أن يؤدي إلى هلاك صاحبه، فقد يعطي الإنسان كلمة قد تقتله إذا بلغت إنساناً آخر. أو قد تدمّره لو انتشرت بين الناس، وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة ما مضمونه "يُؤتى للإنسان في يوم القيامة بقارورة فيها دم، فيقال له خذ هذا نصيبك من دم فلان فيقول يا ربّ لقد عشت حياتي ولم أرق دماً، فيقال سمعت كلمة من فلان فنقلتها إلى فلان الجبّار فقتله فهذا نصيبك من دمه"!
فليست الرصاصة هي التي قتلته ولكنّ كلمتك وتجسسك هو الذي قتل هذا الإنسان. ولذلك لابدّ لنا أن نحترم أسرار الآخرين، لاسيّما إذا كانت تترك آثاراً سلبية على الآخرين.
وأمانةُ المال الوطن وأمانة المجتمع وأمانة الأُمّة هي أنك عندما تكون مسلماً فإنّ ذلك يساوي أن لا تكون فردياً "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم" "مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى" فأنت جزء من أُمّة وعلى الجزء أن يتفاعل مع أحلام الكلّ ومع آلام الكلّ. ولذلك فعندما تكون مسلماً ولا تفكر بالآخرين ولا تهتم بالآخرين فإنّ معنى ذلك أنك عضو مشلول لأنّ العضو المشلول هو الذي لا يتحسس الألم ولا يتحسس الفرح، ووحدة المسلمين أمانة الله في أعناق المسلمين، لأنّ وحدة المسلمين هي سرُّ حركية الإسلام وحيويّة الإسلام وسرُّ قوةِ الإسلام وعزّة المسلمين.
ولذلك فعندما تتكلّمون بأي كلام حاولوا أن تقيسوا الكلام وفقاً لعلاقته بالوحدة، هل أنّ هذا الكلام يسيء إلى وحدة المسلمين أو أنّه يحسن إلى وحدة المسلمين؟ إنّ الكافرين والمستكبرين عندما يقهرون ويسيطرون ويسرقون ثروات المسلمين ويصادرون حرياتهم، فإنّهم لا يفرقون بين مذهب ومذهب، وبين طائفة وطائفة إنّهم يريدون رأي الإسلام وقد يتجهون إلى الرأس القوي ليكون الرأس الأقل قوة سهل التناول من بعد ذلك. ولذلك فلا تستغرقوا في مشاعركم الطائفية والمذهبية.
قلناها مراراً لتكن المذهبية فكرية، ولا تكن مذهبية طائفية، لأنّ الطائفية عشائرية أمّا المذهبية الفكرية فهي تغري بالحوار، وتغري بالتفاهم، وتغري بالانفتاح وبالعلم.
(وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال/ 27). (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال/ 28). ليست امتيازاً وليست شرفاً إنما هي مسؤولية (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (العنكبوت/ 2-3). فتناهم في أموالهم، وفتناهم في أولادهم، وفتناهم في جاههم، وفتناهم في قوتهم، وفتناهم في التحديات التي تواجههم.
وهكذا حدّثنا الله عن بعض الذين فتنوا وقد عاشوا الزلزال (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214). فالزلزال يبلغ حداً من خلال التحديات بحيث يكاد الرسول أن ييأس منه، ولم ييأس، لأنّ النداء يأتيه من أعماقه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214).
أموالنا فتنة يختبرنا الله فيها، هل نكسبها من حلّ؟ هي ننفقها في حلّ؟ هل نقوم بأداء حقوقها التي فرضها الله علينا له وللناس؟ وهكذا أولادنا، هل نعمل على أن يكونوا مسلمين صالحين يطيعون الله في أنفسهم، ويطيعون الله في الناس ويعملون على أن يسيروا في خط الإسلام؟ هم فتنة، فإذا افتتن الإنسان في خط السلب فَسَيخْسَر نفسه وأهله (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزّمر/ 15). وإذا عاش الفتنة في خط الإيجاب فإنّه يواجهه قول الله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 23-24). (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن/ 15)، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).
وفي النهاية هذا هو الخط (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ) (الأنفال/ 29). وتراقبوه في سركم، وعلانيتكم وفي كلّ مسؤولياتكم، فإنّ التقوى تمثل الخط المستقيم الفاصل الذي هو الفرقان الذي يفرّق ويميز بين الحقّ والباطل (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).
ذلك إنّ التقوى نور تشرق في عقلك، وتشرق في قلبك، وتشرق في حياتك، فتجد أمامك الخط المستقيم واضحاً، والخط المنحرف واضحاً، (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (الأنفال/ 29). لأنّ التقوى تمحو السيئات (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال/ 29). فعلينا أن ننطلق لنطلب من الله فضله وهو صاحب الفضل أوّلاً وصاحب الفضل أخيراً، وهو الكريم إن أعطى وإن منع، فلابدّ أن يكون ذلك عن حكمةٍ ومصلحةٍ.
فإلى الله بأن نحبه، وأن نعيش معه، وأن نطيعه، ليكون كلّ شيء في حياتنا، وكلُّ ما عدا الله، فإنّ علاقتنا به تنطلق من خلال الله فهو الذي نتجه إليه، أمّا الآخرون فإننا نتجه إليهم من خلاله، وعلينا أن نحب أولياء الله وأن نعادي أعداء الله، وأن نحب في الله ونبغض في الله (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق