نحاول هنا أن نثير بعض الأفكار الَّتي أثارها الإمام زين العابدين (عليه السلام) مع النَّاس في مجال الفكر. فعن عمار الدّهني، قال: سمعت عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول: «إنَّ الله يحبّ كلَّ قلب حزين». والقلب الحزين هو القلب الَّذي يعيش الإحساس بالله، فيعيش الحزن كحزن العاشق أمام معشوقه؛ حزن الحبِّ والشَّوق والخوف، لأنَّ الإنسان المؤمن هو الَّذي يعيش الحبَّ لله. وقد تحدَّث سبحانه وتعالى عن بعض النّاس مقارنين بالمؤمنين وغيرهم، فيقول: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ». ونحن نعرف أنَّ الحبَّ قد يجعل المحبَّ حزيناً في فراق محبوبه، ويجعله يعيش الشَّوق مما يملأ قلبه بالحزن، كما يحزن من خوف المصير أيضاً.
وكذلك الإنسان المؤمن، فهو يحمل القلب الحزين الَّذي يعيش الحزن لآلام النَّاس ومشاكلهم ومآسيهم ومعاناتهم، فالله تبارك وتعالى يحبُّ القلب الحزين، لأنَّ القلب يعيش الشّعور بأعمق ما يكون، والإحساس بأطهر ما يكون.
شكر النّاس
«ويحبّ كلَّ عبد شكور»، فالله تعالى يحبّ الإنسان الَّذي يتحسّس النعمة ومن يقدّمها له، كما يتحسَّس الخالق الَّذي يفيض بالنّعمة. «يقول الله تبارك وتعالى لعبده يوم القيامة: أشكرتَ فلاناً؟»، الَّذي خدمك وقضى حاجتك وأعطاك وحلَّ مشاكلك؟ «فيقول: بل شكرتك يا ربّ»، لأنّ كلَّ نعمةٍ من مخلوقٍ مستمدَّة من نعمك، فأنت الَّذي أعطيت المنعم ما أنعم به عليّ، ولذلك، فإنَّ الشّكر هو لك يا ربّ، وليس للعبد، «فيقول: لم تشكرني إذا لم تشكره؟»، فإنَّ عليك أن تشكر من أنعم عليك، حتى لو كانت نعمته الّتي أنعم بها عليك منّي، لأنّي أريد للنّاس الواهبين، والَّذين يعيشون العطاء، والَّذين يندفعون لقضاء حاجات النّاس، ويحلّون مشاكلهم، أن يشعروا بقيمة ما يفعلونه، من خلال ردِّ الفعل بالنِّسبة إلى من أنعموا عليهم، حتى يستمرّوا في النّعمة، ويتشجّعوا على الإحسان.
ثم قال الإمام (عليه السلام) تعليقاً على ذلك: «أشكركم لله أشكركم للنّاس»، لأنَّ على الإنسان أن يشكر الخير عندما ينطلق من الإنسان، كما يشكر الخير عندما ينطلق من الله، لأنّه سبحانه وتعالى يحبّ أن نشجِّع الّذي يعطي الخير لكي يستمرَّ في عطائه.المداومة على عمل الخير
وفي كلمةٍ للإمام زين العابدين(عليه السلام)، وهو يشجِّع الَّذين يعملون الخير، كما لو أنَّك تصلّي صلاة اللّيل، أو تتصدّق، أو تنصح إنساناً، أو تقضي حاجة المحتاج، فإذا انطلقت بعمل الخير، فلا يكن ذلك مجرّد صدفة في حياتك، بل إذا بدأته فداوم عليه، وربِّ نفسك على أن يكون الخير طابع حياتك، حتى تكون حياتك من خلال الخير الَّذي تعمله متحرّكةً دائماً في هذا الخطّ.
كان عليّ بن الحسين(عليهما السلام) يقول: «إنّي لأحبّ أن أداوم على العمل، وإن قلّ»، فما دمت قد بدأت بهذا العمل، لأنّك آمنت بأنّه خير، وبأنَّ الله سبحانه وتعالى يعطيك به خيراً، فداوم عليه، لأنَّ الذين يعملون الخير، إذا داوم كلّ واحدٍ منهم على عمل الخير، فإنَّ الخير سوف يعمّ ويتركَّز في حياة الناس. وعن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)، قال: «كان عليّ بن الحسين(عليه السلام) يقول: إني لأحبُّ أن أقدم على ربّي وعملي مستوٍ»، أي مستقيم، وعلى نسقٍ واحدٍ، لا إفراط فيه ولا تفريط، أي أن يكون في خطِّ التّوازن.
البكـاء من خشيـة الله
وفي نهاية المطاف، نعيش الأجواء الروحيَّة مع الإمام زين العابدين(عليه السلام)، قال طاووس: رأيت رجلاً يصلّي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو ويبكي في دعائه، فجئته حين فرغ من الصَّلاة، فإذا هو عليّ بن الحسين(عليهما السلام)، قلت له: يا بن رسول الله، رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف: أحدها أنَّك ابن رسول الله، والثّاني شفاعة جدّك، والثّالث رحمة الله تعالى، فقال(عليه السلام) (ليعطينا موازين القيم): «يا طاووس: أما أنّي ابن رسول الله، فلا يؤمنني، وقد سمعت الله تعالى يقول: «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ»، فهناك تتقطَّع الأنساب، «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» ـ فالنَّسب لا يمثِّل بمجرَّده قيمةً روحيَّةً تقرّب الإنسان إلى الله، وترفعه إلى الدَّرجات العليا، بل إنَّه قد يحمِّل الإنسان المسؤوليَّة في التزامه بالقيم الكبرى الّتي يمثّلها الّذين ينتسب إليهم، كما في الانتساب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وأما شفاعة جدّي فلا تؤمني، لأنَّ الله تعالى يقول: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق