"اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لهُ". (حديثٌ نبوي شريف)
◄كلماتٌ عظيمةٌ، قالها معلم البشرية محمّد (ص).. وعلى هذا: فليس هنالك من حي يمشي على قدمين ليس بموهوب.. ولكن الناس هم الذين طمسوا هذه المواهب بالكسل والضياع والإهمال؛ أي: إنّ الله لم يظلم أحداً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.. فأنت عندما تهمل نفسك، ومواهبك، وتجري وراء ما أسميه الوجع اليومي والذي هو حالة الطوارئ لإتمام واجبات الحياة اليومية وتسييرها حسب ما يقتضي الحال لترضى بأي عيشةٍ، وأيّ مكانٍ، ومع أيًّ كان، ستبقى هذه الإبداعات كالمادة الخام المدفونة داخل الأرض، لا يمكن لأحدٍ أن يراها ويستفيد منها، لا أنت ولا من حولك..
ابحث عن الإبداع داخل نفسك، واجتهد في التنقيب عنه، كما ينقب التاجر على الماس. وإذا كنت لا تقدر أن تحدد في أي مجالٍ أنت موهوب ومبدع، وأين يمكن أن تنمي مواهبك، وتصبح في زمرة الناس المبتكرين الذين أضافوا لمسةً في هذه الحياة، استعن بأهل البصيرة والخبرة، والله سييسر لك ذلك طالما أنك جادٌّ، ولا تريد أن تتخلى عن غايتك..
"إذا أرَدْتَ أن تكون مبدعاً، فعليك أن تجازف؛ لأنَّكَ لن تحقق إنجازاً استثنائياً لو ظللت تتبع من في العربة".
الإبداع:
في اللغة: تدور كلمة الإبداع حول الآتي:
إبداع الشيء: اختراعه لأعلى مثالٍ، وإنشاؤه على غير مثالٍ سابق، وجعله غايةً في صفاته.
وفي معاني البديع: الجديد من الأشياء، والمثال والنهاية في كلّ شيءٍ.
فكلمة الإبداع هنا: تتضمن اختراعَ أو إنشاء الجديدِ من الأشياء، ولكن لأعلى مثالٍ، وأصفى صورةٍ، ومنه قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (البقرة/ 117).
فالله تبارك وتعالى هو المبدعُ والخالقُ على غير مثالٍ سابقٍ، وفي نهايةٍ من الدقة والصَّفاء والحُسن والإبداع.
إياك أن تحسب أنّ الإبداع والابتكار والإتيان بالجديد من اختصاص العباقرة فقط.
كُلنا في الحياة خُلقنا لنبدع ونبتكر، ونتعلم، ثمّ نطور، ونضيف بصمةً إلى البشرية جمعاء..
فلولا أنّ الأسبقين أبدعوا، وابتكروا، لما وصلنا نحنُ إلى هذا المستوى من التقدم والتكنولوجيا والراحة..
أنت يا من تبحث عن التفرُّد والتميُّز، إنّ الإبداع والابتكار مفروضٌ عليك وليس اختياراً عندك..
وإياك أن تحصر تفكيرك بالتفكير التقليدي، فكِّر كما لم تعهد أن تفكر من قبل، واسرح في خيالك، فالخيال هو الشيءُ الذي ليس له حدود أبداً، ولا تفرض أسواراً على هذا التفكير الخلّاق المبدع.. فمن الممكن أن تكون الأسوار كالآتي:
· لا تعتمد دائماً في حلِّ مشاكلك أو عملك على التفكير المرتبط بالمألوف والعادة.
· لا تستسلم دائماً للحلِّ الأبسط والأسرع، بل ابحث وأبدع وجرِّب كثيراً لتصل لشيءٍ لم يفعله أحدٌ قبلك.
· لا ترفض الأفكار الجديدة أبداً، حتى لو كانت مجنونة وتجدها شيئاً فوق الخيال؛ لأن أغلب الاختراعات جاءت من أفكارٍ مجنونة في البداية.
· لا تفقد حماسك بسرعة لو فشلت في تطبيق بعض الأفكار الإبداعية، فلو لم تنجح واحدة حتماً ستُثمرُ أخرى.
· استخدم الخيال المطلق، وتقَّبل شيئاً من اللامعقول بدايةً، فلو قلت مثلاً لرجلٍ من القرن الماضي: إن هناك آلة تتكلم، وتصور، وتحسب، وتحتفظ بملايين الأرقام؛ سيضحك منكَ، وهو الآن متوفرٌ وأكثر من ذلك بكثيرٍ في الهواتف الذكية.
· كُن إيجابيّاً بنظرتك للتفكير الإبداعي، وأيده، وتبناهُ مع غيرك أيضاً.
· كُن شُجاعاً في طرح الأفكار الجديدة، وإياك والشك بقدراتك أو التردد، فهذا هو مقبرة الثِّقة بالنفس.
· لا ترضَ أن تبقى مكانك دون تطورٍ، وبالتالي: فالتفكير الإبداعي سينقلك إلى حالٍ أفضل دائماً. كُن طموحاً.
· كُن مرناً، ولا تقاوم التغيير، فالمرونة قوة، والتفكير بإبداع جزءٌ من المرونة.
خطوات ومراحل الإبداع:
إنّ الإبداع يمر بخطواتٍ ومراحل محددة:
وقد جزَّأ العالِم (والاس 1926م) مراحل الإبداع إلى أربع مراحل؛ إذ يرى والاس أن أغلب الأفكار الإبداعية تمر عبر هذه المراحل الأربع؛ وهي:
1- الإعداد (Preparation)
2- الاحتضان (Incubation)
3- الإلهام والإشراق (Illumination)
4- التحقيق (Verification)
وُجهت العديد من الانتقادات إلى هذا التقسيم، ورغم ذلك فإنّ هذه المراحل أثبتت فائدتها العملية في وصف البيانات المتجمعة من مصادر مختلفة عن عملية الإبداع الخلّاق، وإنشاء الأفكار الجديدة.
1- الإعداد:
تمثل هذه المرحلة تعريفاً كاملاً للفكرة أو المُشكلة وتحديدها بدقة، وجمع الأفكار والمعلومات المتعلقة بها؛ وذلك: عن طريق تدوين الملاحظات، وإلقاء الأسئلة، وإدارة الحُلول والمناقشات، وجمع الشواهد وتسجيلها.. والمبدع في هذه المرحلة، يتميز عن التقليدي بقدرته على التحرر من الأفكار الثابتة أو الارتباط بأفكارِ الآخرين..
2- الاحتضان:
في هذه المرحلة يعاني الشخص أقصى درجات القَلق والتوتر مع الفكرة.. فهي تأكل وتشربُ معه، دائمة الحضور في مجلسهِ وقيامهِ، في يقظتهِ ومنامهِ، وهو إلى ذلك يلفها بالعناية والرعاية والتهذيب والتنظيم، وقد تطفو الفكرة الإبداعية بين الحين والآخر على الذهن.. ويصبحُ المُبدع كما عبر عن ذلك (فان غوخ): "شخصاً يتآكل قلبهُ بسبب ظمئهِ الشديدِ للعملِ".
ففي أثناء التقاط المبدع لأفكاره يتجه أيضاً لبلورة بعضها، وفي أثناء احتضان الأفكار وتبلورها لا يتوقف المبدع عن القراءة، وجمع الملاحظات والمعلومات؛ أي: تستمر المرحلة الأولى مع الثانية، وقد يقوده ذلك إلى تغيير مساره الفكري تماماً.
وهذه المرحلة لا يمكن التنبؤ بوقتها فقد تمتد لعدة سنواتٍ أو لبضع دقائق معدودة، ولا يوجد وقت مخصص للتفكير هذا؛ فقد دلّت تجارب كثيرٍ من الأشخاص المبدعين؛ أن إبداعاتهم العظيمة جاءت خلال الأوقات التي يسترخون فيها كالنوم والاستحمام أو المشي..
3- الإلهام والإشراق:
في هذه المرحلة تأتي لحظة الإلهام، وتشرق الفكرة كاملة على ذهن المبدع، وتعرف بمرحلة (أها.. أو.. أيوركا) وكلتاهما تعنيان: وجدتها.. وهو تعبير عن الشعور بالسعادة والدَّهشة عقب الوصول لحل المشكلة.. وهذه اللحظة تأتي كومضةِ برقٍ أو إشراقةِ ضوءٍ أو لحظة دهشة؛ لا بسبب الجهود المضنية، إنما بفضلٍ من الله ونعمة.
هناك من يعتقد أنّ هذه المرحلة تأتي دون إعدادٍ مسبقٍ، والحقيقة مثلاً: أن (آينشتاين) لم يصل لوضع نظريته النسبية إلّا بعد سنين من الإعداد والترقب، و(إسحاق نيوتن) لم يكتشف أنّ سقوط التُفاحة من شجرتها كان بفعل الجاذبية الأرضية إلّا بعد سنين طويلة من التهيؤ والإعداد..
4- التحقيق:
وهنا تثبت الفكرة ويمكن تحقيقها أو وضعها في صورتها النهائية بعد صقلها وتعديلها وتهذيبها، فبعد إلهام الفكرة تأتي كتابتها، ومحاولة نشرها متكاملة، وقد يتطلب ذلك وقتاً طويلاً.
نصائح للوصول إلى الإبداع:
تكلّمنا عن الإبداع والابتكار، وهو موجودٌ داخل كلِّ نفسٍ وما دورك إلّا البحث عنه، ولكن أين؟.. طبعاً في الداخل؛ داخل نفسك، في مجالك واختصاصك..
فإن أيقنت أنّ مجال إبداعك في الكتابة، فابحث واقرأ عمّن سبقوك، وحاول أن تتعلم منهم، ولكن بغرض أن تضيف شيئاً جديداً وهي أنت.. قدِّم ما يميزك، ويبهر كلَّ من حولك، وذلك: بإتقانك، وصقلك لمهاراتك بالجد والصبر..
فإن كنت طبيباً أو باحثاً، فحاول متابعة الجديد في مجالك والبحث عن الأفضل فالأفضل، وإضفاء المعرفة والمهارات المطلوبة لتصبح من أهم الأطباء في مجالك.. حتى إن كنت مثلاً بنّاءً أو نجّاراً، فهذا لا يبرر أن لا تكون مبدعاً أو مميزاً.. فالمهنة ليست عائقاً للإبداع.. فكلنا عندما يستخدم بنّاءً أو دهاناً يبحث دائماً عن الأفضل، ويعطيه العمل حتى لو كان الأغلى سعراً...
إنّ البشر يشتركون كلهم في الانبهار وحب التميز والمتميزين.. فإذا كنت دائماً مبدعاً ومتميزاً، فأنت بذلك تفرض نفسك على من حولك، وذلك: لأنك طوعت نفسك.. والله يبارك للذي يطوع نفسه ويتعب عليها.. فالجزاء من جنس العمل..
ولكن احذر أن توزع جهودك في مجالاتٍ كثيرةٍ جدّاً، وحاول أن تركز في مجالٍ أو اثنين لتكون المتميز والأفضل، اصقل إبداعك وموهبتك في ما اخترته وأحببته، لكي لا تضيع كل الفرص، فلا تنل شيئاً مما تسعى إليه..
وإياك أن تضيع الفرص المثمرة التي تأتيك أحياناً، وتحس أنك ستتعب لتقتنصها.
كُنْ يقظاً، ذكيّاً، وأقبل، فالنجاحات العظيمة تحتاج إلى هممٍ أعظم..
"يخسر الناس معظم الفرص التي تواجههم؛ لأنّهم تأتيهم دائماً في شكل مشكلاتٍ بملابس العمل، فلا توجد فرص مجردة من الجهد إلّا في الأحلام، ولا يرى الفرص في الأحلام إلّا النِّيام". (توماس أديسون)
إياك أن تتوانى أو تتراجع وتقول: أنا أفضل من فلانٍ؛ فكيف اجتازني وأصبح أفضل مني وغلبني في أرضي وفي مجالي؟!.. أنت الذي سمحت له أن يجتازك بكسلك وعدم تنظيم أوراقك، فالحياة لا تنتظر أحداً، والأقوى هو الذي يفوز..
اطلب الكمال في ما تريد أن تتقنه، وابحث عنه.. فكما قيل: (الجاهل يطلب المال، والعالم يطلب الكمال).
نعم؛ العالم يطلب الأكمل والأفضل، ويحاول أن يبدع ويبتكر، لا يبحث لنفسه أن يشابه أحداً، والكمال لله وحده، ولكننا نبحث عن أعلى نسبة من الكمال وصل إليها البشر، وليس الاكتفاء بتحقيق أدنى نسبةٍ مطلوبة في العمل والحياة.. حتى نأكل ونشرب من هذا العمل، ونلبي حاجات ضرورية فقط دون غاية أو هدف..
والإبداع يبدأ دائماً بتخيل، وهذا التخيل يخرج إلى حيِّز التحقيق، وإذا كنت تمتلك مهارة النضال فسترى الصورة والتخيل أصبح حقيقة أمام عينيك..
وهذه المهارة تصقل بمعرفة خفايا النفس، وكيفية التعامل مع تجاوز معوقات الإبداع، والابتكار، والعجز الذي من الممكن أن تواجهه في خلال بحثك ومسيرتك..►
المصدر: كتاب أنت ونفسك.. رحلة التغيير
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق