• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إلى الله نتوجّه لا إلى غيره

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

إلى الله نتوجّه لا إلى غيره

◄سرُّ العظمة:

في القرآن الكريم حديث دائمٌ عن الله تعالى يوجِّه الإنسان من خلاله إلى أن يستجلي عظمة الله في نفسه، فعندما ينظر إلى حركة الكون من حوله، لابدّ أن يكتشف سرّ عظمة الله في حركة الكون، وعندما يتطلّع إلى حركة الناس والحياة من حوله، فإنّه يدرك عظمة الله في تدبيره للأمور بالطريقة التي يحرّكها على حسب حكمته.. وهكذا في حركة الشمس والقمر والليل والنهار، في النظام الإنساني في سقوط الدول ورقّيها، وفي عزّة النّاس وذلّهم (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26)، الأمرُ كلّه بيد الله سبحانه، حتى الأمور التي يتحرّك فيها الناس ويُخيَّلُ إلينا أنّهم يصنعونها ويقومون بها، هي والناس بمثابة الأدوات والآلات والوسائل التي ينفّذ الله بها إرادته. وهذا ما قاله الله تعالى لنبيِّه (ص) في معركة بدر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال/ 17)، من الطبيعي أنّ هذا التعبير ليس على سبيل الحقيقة، بل هو على سبيل المجاز، فالله سبحانه لا يرمي، ولكنّه عندما دبَّر الأمور ووجّهها ونظّمها وأدارها بقدرته لتحقيق النّصر على يد الرسول (ص) وأيدي أصحابه، فكأنّه تعالى هو الذي رمى، والآخرون أدوات.. وهكذا نحن في الحياة، أدواتٌ سخّرها الله لتنفيذ إرادته وحكمته تبعاً لما يراه من مصلحة الكون والحياة والإنسان، حتى تخضع الحياة كلّها في الواقع الكوني والإنساني للسنن والقوانين التي ركّزها سبحانه في الكون. ولذا يتحدّث القرآن عن عظمة سنّة الله (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (فاطر/ 43)، فركّز في الكون قوانينه ونُظُمَه وطبيعته التي لا تتبدّل، لأنّ ما يتبدّل هو الذي يتغيّر جانب الصلاح فيه، ولكنّ الله تعالى أودع في هذه السُنن جانب الصلاح الدائم والمستمر فيها.

 

لكلٍّ سبب:

وهو تعالى عندما يريد أن ينفِّذ أمراً، فإنّما ينفِّذه بأسبابه، ونحن عندما نطلب منه الرزق والصحّة وما شاكل ذلك، لابدّ أن نلحظ أنّه سبحانه وتعالى جعل لكلِّ شيء سبباً (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/ 3)، فهناك نطاق محدّد ومنظّم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، ففي الكون نظامٌ لحركته وحركة الناس، الذين مع اختلافهم فيما يفعلون، لكنّهم محكومون لنظامٍ معيّن في الخطوط العامة لحركتهم.

ومن خلال ما نقرأه في القرآن (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) (آل عمران/ 26)، نفهم أنّ الله يحذّرنا من الاستغراق في الذين يملكون الدنيا، فليس المَلِك يُسقط مَلِكاً، ولا الدولة تُسقط دولة، ولكنّه النظام الذي أداره سبحانه في ولادة الدُول وسقوطها من خلال أسباب القوة والضعف، وأسباب النهوض والانحطاط، تماماً كولادة الإنسان وموته، أو فقره وغناه، أو صحته وسقمه، وهكذا الدول تنطلق من عناصر القوة ثمّ تضعف وتسقط لأنّ عمرها انتهى. فكما يموت الأشخاص، هكذا الأُمم والدول تموت، باعتبار أنّ كلّ موجودٍ حيّ، سواءً كان موجوداً مادياً أو معنوياً يختزن في داخله عناصر قوة وضعف، وعناصر حياةٍ وموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران/ 185)، هذه النفس تموت (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) (يونس/ 49)، والأمم أيضاً. وكما أنّ الإنسان إذا جاء أجله لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، كذلك الأُمم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس/ 49). وقد جعل لكلِّ فرد حساباً (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء/ 14)، وجعل للأُمّة حساباً (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) (الجاثية/ 28)، فالكلُّ ينتظم في نظام وضعه الله سبحانه وتعالى، حيث لا تحويل ولا تبديل فيه.

 

بيده الخير وحده:

وعندما يذكر القرآن لنا ذلك، ينبّهنا ألا ننسى الله تعالى عندما نقف أمام دولة عظمى أو ضعيفة، أو دولة تنهض وأخرى تسقط، وألا نذوب في الأشخاص والرموز الذين يمثّلون هذه الدول أو تلك، لأنّهم بأجمعهم خاضعون في حركتهم الإيجابيّة أو السلبية للنظام الكوني في ولادة الأُمم وموتها، وفي نهوض الدول وضعفها (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) (آل عمران/ 26)، فأنت عندما تقف بين يديّ ربِّك، وتتطلّع إلى كلِّ الزعماء والملوك من حولك والدول والممالك، فلا يسقطنّ ذلك نفسك ولا يأخذنّ بمجامع قلبك، ولا تأخذك الرهبة من هذا أو ذاك، ولكن ارتفع بعقلك وقلبك وروحك إلى ربِّك، وتصوّر أنّ كلّ هؤلاء يتحرّكون من خلال إرادة الله سبحانه، لا بمعنى أنّ الله يحبهم ويصطفيهم، بل بمعنى إدراك ومعرفة إرادة الله في تنظيم الكون وحركته. (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) كلُّ المُلْك بيدك وخلقتَ ذلك كلّه، ولو أبعدتَ إرادتك عنه لَمَا استقرّ لحظةً واحدة، فهو بإرادتك وُجِدَ ويستمر ويموت (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) من خلال الأسباب التي تُودِعُها في الكون لولادة الممالك، وارتفاع الملوك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) كما تنزع الروح ممن تشاء، يأتي أجَلُ المُلْك كما يأتي أجَلُ النّفس، فتموت الممالك كما يموت الناس (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) بعض الناس يُولَدُون أعزاء ويموتون أذلاء، وبعضهم يولَدون أذِلاء ويموتون أعزاء، وهذا ينطلق من خلال العناصر التي أودعها الله في الحياة، مما هي داخلةٌ في ذواتهم أو مقتبسةٌ من غيرهم، فيعزون أو يذلّون (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فكلُّ خير هو بيدك، لأنّ الوجود بيدك، وما فيه من خير، حرّكته وصنعته أنت، لأنّ الوجود لا يملكه غيرُك (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل/ 53)، فهو سبحانه يقلّب الأمور كما يشاء، لأنّها طوعُ يديه، وهي خَلْقُه، والذي خلق يستطيع أن يُميت، والذي أعزَّ يستطيع أن يُذِلّ (إنّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).

هذا ما يجب أن يعيشه المؤمنون في نفوسهم وهم يعيشون عبوديةَ الله، فتجعلهم يتجهون إليه سبحانه عندما يفكِّرون في العزِّ والذُّلّ ولا يتجهون إلى الناس، وبذلك يستجلون عظمة الله في نفوسهم، لأنّه سبحانه خالق كلِّ شيءٍ وهو أمامه ووراءه، فتتحرّر نفوسهم من الخضوع للنّاس الذين يعتبرون أنفسهم كباراً وأعزاء وملوكاً، تتحرّر وتبقى العبودية عندهم لله وحده.

 

لنرتفع إلى الله بعقولنا:

ومشكلتنا أننا نستغرق في استجلاء عظمة الناس من حولنا، ونبتعد عن عظمة الله في نفوسنا، وبذلك ننحني بقلوبنا وعقولنا وإراداتنا أمام بشر مثلنا فنجعلها أقل شأناً منه، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأعراف/ 194)، فلماذا تؤلّهونهم وتعظّمونهم وتسقطون أمامهم؟ فإذا عشتم عظمة الله في أنفسكم، وجدتم أنفسكم، ووجدتم عزتها وحرّيتها وقوتها، وقلتم للنفس، ها نحن أناسٌ كما هؤلاء، نحن مخلوقون لله، كما هم مخلوقون، نحن عبادٌ لله كما هم، وإذا جعلنا اللهُ أضعفَ منهم الآن، فقد يجعلنا غداً أقوى منهم، وإذا جعلنا بعيدين عن المُلْك والقوة والسلطة الآن، فقد يُصَيِّرُ غداً كلَّ ذلك لنا. ولهذا يقول سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا) (آل عمران/ 140)، فيومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرّ، وهذه نقطة أساسية تجعلنا نواصل العمل والتخطيط والتقدّم والجهاد في كلِّ مواقع حياتنا.. وإنّنا عندما نرى الظُّلمَ مُطْبقاً على الكون، ونظنّ بأنّه لا مجالَ للخروج من الظلمة، هل نقبل بالاستسلام؟ لا، إنّنا عندما نرى الليل مدلهمّاً مظلماً، نرفع رؤوسنا قليلاً، فنرى الكواكب المنتشرة في السماء، فندر أنّ الدنيا ليست كلّها ظلاماً، هذه نجمة تلمع من بعيد، وتلك أقلُّ لمعاناً، وتلك أكثر، فنتلمّس النور لنخرج من ظلمتنا، وعندها نحدِّق بمن حولنا، فلا نعيش اليأس، بل نرتفع بعقولنا إلى الله، حيث هناك الأمل كلّ الأمل.

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران/ 26-27).

 

الدقة والنظام:

ما أدقّ هذه الحركة المستمرّة منذ خلق الله الكون بنظام لا ينحرف درجة واحدة (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (آل عمران/ 27)، يُنقص من النهار لحساب الليل وبالعكس، يأخذ قطعة من النهار ويجعلها حصّة لليل فينقص النهار ويُطيل الليل فيجعلها مظلمة في فصل، ويأخذ حصةً من الليل ويعطيها للنهار فيطيل النهار وينقص الليل، فيجعلها مشرقة بعد أن كانت مظلمةً في فصل آخر.. هو وحده القادر (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فبإرادته يتحوّل الموتُ إلى حياة (وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5)، (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) يُولَد ميّتٌ من حَيّ، كما يُولَد حيٌّ من ميّت (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يرزق الناس بكرمه، ينظّم أمورَهم ويعطي بلا حساب، ويقدّر لكلّ إنسان رزقه حسبما يراه من مصلحة (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر/ 15-16)، فليس إعطاء المال للإنسان كرامة، وحرمانه منه إهانة، إنّها طبيعة تقديره للأمور ومعرفته سبحانه بما يُصلح الإنسان أو يُفسده.

 

الحب والبغض في الله:

إذاً، المُلْك والعِزُّ والحياة والموت والرزق وكلُّ نظام الكون بيد الله تعالى، فأين تبتعدون وإلى مَنْ تذهبون؟ ولأنّ كلَّ ذلك بيده، في ليلكم ونهاركم وحركة واقعكم الذي تعيشون فيه، كونوا مع الله سبحانه، وإذا كنتم معه فلابدّ أن تكونوا مع أولياء الله. لأنّه لا يمكن للإنسان أن يكون مع الله ومع أعدائه في الوقت ذاته. لذا، إذا كان مع الله، فموقعه مع أوليائه. وإذا كان موقعه مع أعدائه، فأحبّهم وأحبّوه وأعطاهم الولاية، يجب عليه أن يعيد النظر في إيمانه، لأنّه كلّما اقترب بقلبه من أعداء الله، كلّما فقد شيئاً من إيمانه، لأنّ من علامة الإيمان التولّي والتبرّي، أن نوالي أولياء الله ونعادي أعداءه.. وفي كلمة للإمام الصادق وهو يفسِّر قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ) (الحجرات/ 7)، قال (ع): "وهل الدين إلا الحبُّ".

الدين يختصر ذلك، أن تحبَّ اللهَ وأولياءَه، وتعادي الشيطان وأولياءَه، ليس هناك من علاقات دبلوماسيّة قلبيّة، هناك مقاطعة دائمة، مقاطعة في القلوب والعقول والمواقف والمواقع. وهناك فرقٌ بين المعاشرة وبين الموالاة، المعاشرة في حركة الحياة، لا تحمل في داخلها الطاعة، أما الموالاة فهي الطاعة والخضوع، ولهذا، قال الله سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 28)، فإذا وصلت المسألة إلى حَدِّ تأييد المواقف، وإلى الانتماء والنُصرة والمعونة وإعلان العاطفة، وكان الناس على قسمين، فهناك مؤمنون يتحرّكون في خط الله، وكافرون يتحرّكون في خطِّ الشيطان، وهناك مؤمنون يريدون ولاية أمور النّاس، وكافرون يريدون الأمرَ نفسه.. فالسؤال، مع مَن تكون أيّها المؤمن؟ الآية الكريمة واضحة، فهي تنهى عن استبدال ولاية المؤمنين بالكافرين، بمعنى أن يصبحوا رؤوساءهم وزعماءهم وقادتهم وأولياء أمورهم.. وإذا ما حدث ذلك فما النتيجة عند الله؟ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) مَن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) فإذا انتمى إليهم وربط نفسه بهم وفضّلهم على المؤمنين في الولاية، فإنّ الله سيقاطعه، ولن يكون له ارتباطٌ به لا من قريب ولا من بعيد (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) (آل عمران/ 28)، ولكن إذا اشتدّت حالة الحصار والضغط عليكم، بحيث أنّكم قد تُضطرّون لاتخاذ بعض المواقف التي تفرض عليكم مماشاةَ الذين يكفرون بالله، فلا بأس بالتقيّة، والحال في ذلك كحال عمّار بن ياسر (رض) الذي عُذّب وقُتِل أبواه فاضْطُرَّ للنطق بكلمة الكفر، وجاء إلى رسول الله (ص) يخبره بأنّه هلك، لأنّه نطق بكلمة الكفر تحت الضغط والتعذيب، فما كان من رسول الله (ص) إلا أن هدّأ من روعه وبشّره بأنّ قرآناً نزل به (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) (النحل/ 106)، وقال له: "يا عمّار إنّ عَادوا فَعُدْ" في حال الإكراه والشدّة. وقد كان أمير المؤمنين (ع) يقول: "سَتُدْعونَ إلى سَبِّي والبراءة مني، أما السبُّ فسبّوني فإنّه لي زكاةٌ ولكم نجاةٌ، وأما البراءة فلا تتبرّأوا مني، فإنّي وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة" فالبراءة مني. كما يقول الإمام (ع) براءةٌ من الإيمان (إلا أن تَتَّقُوا منهُم تُقاةً) إذاً، في هذه الحالة وحسب، وانتبهوا فلا تقلِّلوا من قيمة التنبيه الإلهي، ولا تستصغروا مقام الله، ولا تحدِّقوا بعظمة الكافرين وتنسوا ربّكم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران/ 28)، يحذّركم سبحانه أن تسحقوا رؤوسكم تحت أقدام الطغاة، وتفتحوا قلوبكم لهم، وتسلّموهم أموركم وأمور النّاس من حولكم بجهودكم، وتقولوا بأنّ الله غفورٌ رحيم، أبداً (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99)، فإذاً (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) قد يطولُ بنا العمر، قد نختبىء ونتحصّن ونذهب إلى هذا الكهف أو ذاك، ولكن (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فآخر الأمر عائدون إليه وسنقف للحساب بين يديه.

ومن أين لكم أن تفرّوا من قوة الله وعلمه في الصغير والكبير من أموركم (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (آل عمران/ 29)، مع الآخرين قد نُخفي أسرارنا في قلوبنا ولا يعرف بها أحدٌ، قد نخبىء حبّ الكافرين وموالاتهم في قلوبنا، ولكن إذا أخفينا ذلك عن الناس، لا نستطيع أن نخفيَه عن الله تعالى، لأنّه يعلم ما في قلوبنا وصدورنا، وأكثر من ذلك (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 29)، في اكتشافه ومعرفته وعلمه وقدرته.

 

الحذرَ الحذرَ:

وتنتهي الحياة، ومعها تتوقف هتافاتنا وانتماءاتُنا وتحزّباتنا وموالاتنا، وينتهي الفصل الأوّل، لِيُرفع الستار عن الفصل الثاني، وحياتنا فصلان، دنيا وآخرة، ولّت الدنيا، وبدأت حياة الآخرة، فماذا في المشهد الأوّل من هذا الفصل؟ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (آل عمران/ 30)، الملائكة بالانتظار، فإذا ما فعلت الخير في الدنيا يُحَضّر لك كلَّ ما يُريح نفسَك.. ولكن، إذا ما كنت قد ارتكبت المعاصي والجرائم، فما الذي حُضِّر لك؟ (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (آل عمران/ 30)، في يوم القيامة يُوضع عملُك السيِّئ بين يديك، الذي تتمنّى أن تبتعد عنه وتفصلك عنه المسافات البعيدة (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 30)، أيُّها العاملون بالسوء، انتبهوا لأنفسكم، لأنّكم ستقفون بين يديّ الله سبحانه، وهو عندما يحذِّركم نفسه، فلتتوازنوا وتعيشوا الحذر، في كلِّ كلمةٍ تقولونها، وكلِّ عملٍ تعملونه، وكلِّ خطوةٍ تخطونها، وكلِّ علاقةٍ ترتبطون بها. فقيمة الحذر أنّه يدفعنا للتفكير بالنتائج، وبالخطِّ الذي يختزن النتائج الجيدة أو السيئة، لأنّ الشيطان لغّم أوضاعنا وعقولنا وقلوبنا وأعصابنا، وهذا ما يستوجب أن نسير في حقول الألغام بكلِّ وعي وصبر حتى لا نقع في شراك الشيطان وننسى ربّ العالمين الذي يهدينا إذا سرنا في طريق الهداية، وقد أخذ على نفسه ذلك (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فليس ظالماً ينتقم منا إذا حَذِرناه وتبنا إليه، فهو تعالى يرأف بنا ويرحمنا.. ونبقى في رحلة الحياة مع الله نعظِّمُه ونفتح قلوبنا له، لنقف يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون بين يديه على طاعته وتقواه. ►

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top