◄لقد أدرك الرسول الأعظم (ص) أنّ شخصية المسلم لا تختبىء تحت الدثار الدافىء ليعلمنا، انّ القيام لإنذار المجتمع الجاهلي من خطورة سباته العميق، وتحقيق الطموحات الرسالية، إنما يمرّ عبر بناء العلاقات.
وذلك لأنّ بناء العلاقات هو الذي يؤدي إلى توصيل الفكرة الحضارية إلى الناس بخطوات سريعة وثابتة (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر/ 1-2).
وإلا فإنّ الإنذار لا يتم في فراغ، لابدّ له من عقول وأذهان صاغية، ونفوس قابلة للإستجابة، ولهذا لابدّ من بناء العلاقات.
وهكذا، انطلق الرسول وحده من غار حراء لتدين له أُمّة هي الآن من أكبر أمم الأرض، ليضع حداً لعربدة الجهل، بفضل عقيدته الحقة ورؤيته السليمة لعلاقاته البناءة، التي هي جزء أساسي من شخصية الرسول (ص) ولكن القليل من الناس استطاع أن يبلور شخصيته الإسلامية، وظل الكثيرون الذين لم تصقل شخصيتهم الرسالية بعد نتيجة لخطأ في حساباتهم تجاه مسألة بناء العلاقات.
لا لسياسة الانغلاق:
يمارس البعض من الناس سياسة الانغلاق والتقوقع على الذات متجنباً الاتصال بالآخرين، فهو بعيد كلّ البعد عن ترسيخ العلاقات الهادفة مع المجتمع، وهو غير مستعد للتعرف على الشباب المتعطش لعبير الإسلام ومنهله العذب، والمتلهف لعطائه اللامحدود، وبالتالي ليقودهم نحو الاتجاه الصحيح الذي ينبغي على كلِّ الشباب السير فيه.
هؤلاء ليس لديهم استعداد للتضحية بجزء من وقتهم لهداية الناس وإرواء ظمئهم.
إنّ ذلك يعود إلى اعتقادهم الخاطىء بأنّ بناء الشخصية الإسلامية لا يتحقق إلا من خلال انغلاقهم على الذات بعيداً عن أعباء بناء العلاقات الهادفة، ولعل الدوافع التي تشجعهم على ذلك لا تخلو من إحدى الأسباب التالية:
1- البناء عبر الانطواء تصور خاطىء:
يعتقد البعض بأنّه يمكنه بناء شخصيته عبر التمحور حول الذات، والانغلاق بين أربع جدران، وتركيز الجهود على تطوير النفس، معتقداً أنّه لا يستطيع تطوير الآخرين، إلّا بعد أن يتفرغ لنفسه مدة طويلة يكثف فيها جهوده ليصل إلى مستوى من الفكر والعلم والإيمان قريب إلى الكمال، وبعد ذلك ينطلق للآخرين معتبراً بالقول السائد "فاقد الشيء لا يعطيه"، متناسياً أنّه لا يمكن للإنسان بلوغ مرحلة الكمال لأنّه كلما إزداد علماً كلما إزداد وعياً لسلبياته، فيرى، نفسه بحاجة لتزكيتها من جديد.
لذلك نجد أنّ العلماء أكثر الناس قناعة وانتباهاً إلى قصور الإنسان وضعفه، فالذي يعتقد بأنّه سيصل يوماً إلى القمة وإلى درجة تغنيه عن بناء ذاته، لأنّه كامل... وعندها سوف يتفرغ للآخرين لابدّ أن يعرف بأنّ هذا هو الخطأ بعينه ونقص في حدِّ ذاته.
فالشخص المبتلى بالفكرة السلبية الداعية إلى التفرغ للذات وبعد ذلك يبدأ بالانطلاق لبناء الآخرين، فليعلم أنّه لن يدرك ذلك اليوم الذي يحقق فيه طموحه غير الواقعي هذا.
لأنّ قطار العمر سيكون قد مرّ عليه ورحل.
ومن هنا تبدأ الأمراض النفسية تزحف في ذاته حتى يبتعد عن تحمل ثقل مسؤوليته الرسالية، فيصاب بالأنانية ويتجذر في نفسه حب الذات والتفرد للبحث عن المصلحة الشخصية.
فلا يقرأ الكتاب إلا من أجل ذاته، والحصول على العلم لذات العلم، ولا يفكر ويخطط إلّا من أجل برمجة حياته الشخصية لبذل الجهود كي يحقق طموحه هذا.
ولا يفجر طاقاته إلّا من أجل مصلحة ذاته، فهو يدور ويتمحور حول دائرة "الأنا".
وبذلك يكون الشخص يأخذ... ويأخذ... دون أن يعطي شيئاً للآخرين.
2- الخوف من التأثر:
ومن العوامل التي تؤدي إلى اتجاه الإنسان نحو الانغلاق هو خوفه الدائم من التأثر بسلبيات المجتمع بدل التأثر فيها، فيدفعه ذلك إلى اتخاذ سياسة الانغلاق على الذات.
عند ذلك تراه يبتعد عن الخوض في غمار التعرف على الآخرين وهدايتهم نحو الطريق القويم، إنّ ذلك يؤدي إلى أن يصاب بنفس أمراض الذي يعايشه، فخوفاً على دينه، وأخلاقه وإيمانه بالإضافة إلى سلوكه وتصرفاته من أن تتأثر بنواقص وسلبيات الناس، ولأنّه لا يملك المقدرة على التأثير في الناس نحو الأفضل بأن ينقل إيجابياته إليهم، يحاول أن يتهرب من مسؤولية بناء العلاقات مع الناس.
إنّ الذي ليست لديه القدرة على التأثير بالآخرين، سوف يؤدي ذلك إلى تأثره بعوامل أخطر من عامل التأثر بسلبيات المجتمع.
وأوّل هذه العوامل هو الشيطان الذي يوسوس في صدره، والذي يعد أقرب اشتباه إليه، ومن ثمّ النفس الأمارة بالسوء، والهوى، والشهوات وما إلى ذلك.
إنّ الخوف من التأثير بالمجتمع، وعدم ثقته بمقدرته على التأثير بالآخرين هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الانغلاق وعدم عقد العلاقات البناءة مع المجتمع.
3- النظرة السلبية لعلاقات المجتمع:
إنّ النظرة السلبية الدائمة لعلاقات أفراد المجتمع فيما بينهم تقود الإنسان إلى تبنَّي سياسة الانغلاق على الذات، والشك في حقيقة العلاقات القائمة بين الناس فيعتقد بأنّ علاقات الناس بعضهم مع البعض الآخر ما هي إلا علاقات مصلحة واستغلال وروابط يسودها الجشع والطمع مبنية فقط على أسس مادية صرفة.
وإنّ عهد الخير والعلاقات الأخلاقية الحسنة ذات الجذور والأهداف الإسلامية والإنسانية قد ولى، وإنّ الإخاء والمحبة والتعاون وحب الخير قد أكل عليها الدهر وشرب.
فهو من جهة يحذر من تكوين العلاقات مع المجتمع لأنّها إسلامية كما يتصور، ومن جهة أخرى يتهرب من أي شخص يحاول إقامة رابطة معه وبناء علاقة بناءة وكأنّه هو الشخص الوحيد المؤمن والهاد وسائر الناس منحرفون في هذا المجتمع الكبير، ناسياً أنّ دور المؤمن الرسالي يحتم عليه العمل من أجل إصلاح الناس وبناء العلاقات الهادفة فيما بينهم، وإذا فرضنا جدلاً بأنّ علاقات المجتمع كلّها غير إنسانية، وغير سليمة، فمن يصلحها؟ أنتظر ملكاً مطهراً ينزل من السماء لأداء هذه المهمة؟. بالطبع عليه هو أن يتحمل ذلك، لأنّه مسؤول عن مجتمعه يوم القيامة، لا أن يتهرب من المسؤولية ويفضل العزلة عن الناس، فيشارك بذلك المجتمع في تكريس العلاقات السيئة.
لذلك فعلى الإنسان أن يتخلص من هذه الوساوس ومن سوء الظن بالآخرين لأنّه نوع من الإثم، كما أنّ للمجتمع صفحة سوداء مظلمة كذلك فإنّ هناك صفحة بيضاء ناصعة وأناس أخيار، فلا تسيطر عليك هذه النظرة السلبية للمجتمع، فالله تعالى يصف المؤمنين بأنّهم يظنون بأنفسهم خيراً حيث يبيّن موقف المؤمنين من بعضهم البعض، فيقول:
(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) (النور/ 12).
والله تعالى حكم على نبيّ الله يونس (ع) بالسجن في بطن الحوت بعد أن دعى على قومه الذين لم يصبر على انحرافهم، فدعى عليهم العذاب، لكن الله تعالى سجنه في بطن الحوت، ويقول: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات/ 143-144).
فلابدّ للإنسان أن لا يحمل هذه النظرة السلبية للمجتمع حتى يتسنى له بناء العلاقات معهم والتفاعل في ذلك.
لا لسياسة الانفتاح المفرط:
وفي مقابل ذلك لا يهتم بإصلاح نفسه وبنائها، فهو كالذي يحلّ مشاكل الآخرين بينما هو في دوامة من المشاكل.
إنّ هذه العلاقات التي يقيمها إنما هي تهرب من إصلاح نفسه.
نعم لسياسة التعادل:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).
إنّ الحديث عن النظرة الرسالية السليمة لبناء العلاقات جزء لا يتجزأ عن سعي الإنسان نحو الشخصية الإسلامية، فكلما تبلورت الرؤية حول بناء العلاقات كلما اقترب المسلم أكثر نحو الهدف المنشود وهو بناء الشخصية الإسلاميّة، إنّ مجرد اتباع سياسة الانغلاق أو سياسة الانفتاح فقط يجرّنا بعيداً عن الهدف المنشود، فالطريق المؤدي إلى بناء الشخصية الإسلامية يمرّ من خلال انتهاج سياسة التعادل السليم، لا الانغلاق المطبق ولا الانفتاح اللّامحدود.
صحيح انّ بعض الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فضلوا العزلة على الانفتاح، وبعضهم فضّل العكس، لكن هذا كان جانباً واحداً من حياتهم، أو مرحلة مؤقتة في حياتهم وذلك نظراً للظروف الاستثنائية العصبية التي أحاطت بهم، وتطلبت منهم انتهاج هذا الأسلوب أو ذاك.
ولكنهم في ظروفهم الطبيعية، وفترة أداء رسالتهم كانوا ينتهجون دوماً سياسة التعادل، لا انغلاق تام، ولا انفتاح لامحدود.
فالإمام الصادق (ع) في فترات حياته كان يبلغ رسالته ويخالط مجتمعه إلّا أنّ ظروفاً استثنائية حالت دون ذلك، حيث كان سجيناً في منزل تحت الإقامة الجبرية، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من أن يؤدي رسالته، ويرتبط بأُمّته.
لذلك فإنّ الفرد لا يستطيع بناء شخصيته الإسلامية إلا بتفجير قدراته وطاقاته عملياً وذلك من خلال بناء العلاقات الرسالية، يخوض غمارها، ويحتك بالآخرين فيكتسب التجارب والخبرات حتى تصقل شخصيته، كما وأنّه لا يستطيع بناء العلاقات الرسالية إلّا عبر بناء شخصيته الإسلامية.
فهو بحاجة إلى فكر سليم، يستنير به في التخطيط لذلك، ويحتاج لنفسية جبارة تلهمه الصبر والصمود في مقارعة الضغوط ومواجهة المشكلات، ويحتاج إلى إرادة صلبة وبدن قوي ليكون أكثر عزيمة وأعز شكيمة.. فعملية بناء الآخرين وبناء الشخصية عملية واحدة تدور في فلك واحد، فهو في الوقت الذي يبني الآخرين فإنّه يبني شخصيته أيضاً. ►
المصدر: كتاب سرّ النجاح في شخصيتك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق