• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أيها المربي: عندما تمنع، قدم بديلاً

أيها المربي: عندما تمنع، قدم بديلاً

هذه النصيحة أرستقراطية وفخمة جدّاً فهي تعبّر عن ثقافة المربي العميقة، لأنّه من النادر أن تجد من يتعامل مع هذه القطعة ويطبقها، والسبب ليس في صعوبتها وليس لغياب البدائل التي تقدم للأبناء في حالة منع الشيء عنهم، لكن السبب الرئيسي في ذلك أنّ المربي يفضل استخدام الأسلوب الأسهل وهو المنع، ثمّ يقف وكأنّه انتهى من المشكلة وعلاجها.

هنا أنا أتحدث عن أرقى النصيحة وأصعبها والتي يجب أن تكون صفة في كلّ مربٍ مبدع وناجح، فعندما نذكر نجاح المربي وإبداعه يجب أن نذكر أنّه مطبق لهذه القاعدة، لأنّه لا يكتفي بمنع من حوله من الأشياء السلبية واختياراتهم الخاطئة وفهمهم القاصر والتي قد تشكل خطورة على سلوكياتهم، بل يضيف على منعه بديلاً ناجحاً ومقبولاً لهم، وتُعطي هذه النصيحة عند وجودها في المربي السمع والطاعة والحب من قبل المتربين تجاه مربيهم.

وتكمن صعوبة تطبيق هذه النصيحة في أمر واحد، وهو الذي جعل المربين يبتعدون عن تطبيقها رغم أهميتها، وهي كثرة اختيارات الأبناء الخاطئة، والتي تبدو أحياناً منطقية بسبب القصور الكبير في فهمهم لما هو صالح لهم، وكذلك نقص التجربة لديهم، لكن هذا السبب ليس مدعاة للمربين كي يتجاهلوا هذه القطعة ولا يضعونها في لوحة الـPuzzle، لأنّ هذا سينتج عنه لوحةً غير مكتملة القطع، فكثرة أخطائهم سيجعل المربي مطالَباً بأن يقدم البديل الصحيح لهم في كلّ مرّة، وهذا بالتحديد الذي جعلهم يُهملون العمل بها!

 

·      حتى ننهي الأزمة:

فعلياً تعيش هذه النصيحة في أزمتين: الأولى في كثرة مشاكل الأبناء واختياراتهم الخاطئة، والأخرى أزمة عزوف المربين عن تطبيق هذه القطعة، وكي ننتهي منهما، سأقوم بطرح بعض النقاط التي ستساعد في حلهما.. ولنبدأ بالأولى:

-         أزمة كثرة مشاكل الأبناء واختياراتهم الخاطئة:

لاحتواء ومعالجة هذه الأزمة الخاصة بالأبناء عليك أيها المربي بـ:

أ‌)       أن تتذكر دائماً أن مشاكلهم هي جزء من طبيعة الإنسان.

ب‌) أن تتذكر أن عقولهم مشابهة لعقلك، لكن الاختلاف الجوهري أن عقلك ممتلئ بالمعلومات والتجارب أضعاف ما يملكونه، وهذا ما يجعل كثيراً من اختياراتهم خاطئة.

ت‌) أن تبين لهم بوضوح، عندما يقع اختيارهم على تصرف أو طلب خاطئ، خطورة هذا الشيء عليهم، سواء كان خطراً على حاضرهم أو مستقبلهم.

ث‌) أن تملأ وقت فراغهم وأن تشغلهم بهواياتهم التي يحبونها.

ج‌)   أن تزوّد عقله بالمعلومات النافعة والقيم الحميدة حتى يصل لمرحلة متقدمة من الإدراك والوعي فهي تمثّل الغربال الذي يستطيع من خلاله أن يختار ما هو صحيح ونافع له.

ح‌)   أن تجعله يمضي في اختياره، وإن طال خطأ، لتحمّله المسؤولية عندما يدرك أنّه أخطأ في الاختيار (استعمل هذه النقطة عندما تكون اختياراتهم الخاطئة لا تؤثر بشكل كبير عليهم) والهدف من هذه النقطة أن يكتشفوا خطأ اختيارهم من قِبَل أنفسهم.

1-    أزمة عزوف المربين عن هذه القطعة:

هناك بعض الشروط والأفكار التي يجب أن يفهمها المربي ويعمل بها لمعالجة هذه الأزمة وأن لا يكتفي بمعالجة الأزمة الأولى فقط، وهي:

أ‌)       يجب أن تعرف أنها شرط لابدّ منه لتربية صحيحة في هذا الزمن.

ب‌) جهّز قائمة بالبدائل النافعة التي يحبها أبناؤك، وانتظر الوقت المناسب لتقديمها لهم.

ت‌) اجعل أبناءك يشاركونك ويساعدونك بوضع قائمة البدائل.

ث‌) استشر المختصين وأصحاب التجارب التربوية لبحث موضوع البدائل معهم.

ج‌)   اعلم أن تفكيرك وتقديمك للبديل الصالح لأبنائك سيساهم مستقبلاً في تشكيل شخصياتهم التشكيل الصحيح والسليم.

ح‌)   البديل الناجح الذي تقدمه هو باختصار ملء لأوقات فراغهم، مما يعني تقليلاً لمشاكلهم.

خ‌)   ليس شرطاً أن يكون البديل مكلفاً مادياً أو صعب التنفيذ ويحتاج لجهد منك، بسّط الأمر حتى لا تُتعب نفسك في تقديم البدائل وبالتالي تقع في أزمة العزوف عن هذه القطعة.

·      أهمية النصيحة:

تكمن أهميتها في الأبناء أنفسهم، والبيئة التي يعيشون فيها، فلا يخفى عليك أننا نعيش في زمن يتصف بثلاث صفات هي:

1-    سريع

2-    متغير

3-    مبهر

وهذه الصفات الثلاث تجعل من ثقافة منعك على الإختيارات الضارة التي يختارها الأبناء غير كافية، لأنّهم سيرون في محيطهم الخارجي سواء كان في المدرسة أو الشارع أو حتى في التلفاز أموراً جديدة ومبهرة، ولسوء الحظ أنّ غالبيتها مضرة لهم، وقاعدة (كلّ ممنوع مرغوب) تفرض نفسها في كثير من الأحيان، ولأنّ المنع في هذه الحالة سينتج عنه مشاكل كثيرة ومتكررة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:

1-    عدم تقبل الأبناء للمنع.

2-    غضبهم، لأنّهم قد يرون أنّ هذه الأشياء التي منعوا منها سواء من أفكار أو أشياء، يتمتع بها أصدقائهم.

3-    فقدان الحب والثقة تدريجياً بين الوالدين وأبنائهما.

4-    قد ينشأ عندهم شعور بالحسد لما هو متوفر لدى الآخرين، وقد يكبر الشعور ليصبح عداءً.

5-    عدم التزامهم بقرارات الوالدين والخروج عليها.

6-    شعورهم بأنّهم مظلومون.

وغيرها الكثير من التبعات النفسية والسلوكية نتيجةً للمنع والتي ستتفاقم مع مرور الزمن وكذلك مع ازدياد منع الوالدين لقراراتهم واختياراتهم.

هذه النصيحة ليست مطلقة وغير مشروطة، بل هناك أمور يجب أن ينتبه لها المربي عند تطبيقها، فالبديل يجب أن يتصف ببعض الصفات ويحكمهما بعض الأمور، وهي لن تزيد عن اثنتين هما:

 

1-    بديلٌ محببٌ:

يجب أن يكون البديل المقدم لهم محبباً ومبهراً بحيث لا يأبهون معه بالأمر الذي كانوا يطالبون به، فإن كان يؤمنون به فكرة خاطئة، يجب عليك أن تقدم لهم فكرة أخرى نافعة ومحببة لهم، وإذا كانوا يطلبون أمراً مادياً لكنه ضار لهم، فيجب عليك أيضاً أن تقدم لهم بديلاً مادياً آخر محبباً لا يشعرهم بفقدان الأوّل، وعليك أيها المربي أن تضع بعين الاعتبار المرحلة العمرية لابنك الذي ستقدم له البديل بحيث يكون مناسباً لعمره وتفكيره، فمن غير المعقول أن تقدم للطفل شيئاً محبباً للمراهق شيئاً مناسباً للأطفال.

2-    بديلٌ نافعٌ:

لا يكفي أن يكون البديل محبباً وباهراً لأبنائنا فكثيرة هي الأفكار والأشياء التي تتصف بالإبهار لكنها ضارة لهم أو غير مفيدة، لذلك كانت الصفة الثانية بأن يكون نافعاً ويقدّم الإضافة لعقولهم وشخصياتهم، فنحن في زمن نحتاج أن نستثمر فيه كل لحظة.. وكل فكرة.. وكل موقف.. وكل شيءٍ نقدّمه للأبناء حتى نهيئهم لمواجهة تحديات هذا الزمن ومشاكله، دون حاجتهم مستقبلاً للجوء إلينا.

وحتى تتضح صورة هذه القطعة أكثر، سأضع مجموعة من الأمثلة الواقعية لتوضيح كيفية تطبيق (البديل الناجح) مع المتربين:

 

طلب المتربين غير النافع

بديل المربي الناجح

مشاهدة رسوم متحركة تعلم أنها غير تربوية

توفير رسوم متحركة مفيدة عبر القنوات المخصصة لها أو شراؤها

الخروج مع أصحاب تعرف أنهم سيؤو الأخلاق

إشراكه في المراكز والنوادي الهادفة صاحبة التوجه التربوي والأخلاقي

يطلب منك أحد أبنائك مصروفة بشكل متكرر ومبالغ فيه

خصص له مبلغاً إسبوعياً بالإتفاق معه، وأبلغه أنّه يتحمل مسؤولية إنتهائه قبل موعده

لديك ابنة تكثر طلباتها ومشترياتها المفاجأة عندما تذهب معها لأحد المجمعات التجارية

اتفق معها أن تحدد ماتريد قبل دخولكما السوق، وإن طلبت المزيد بعدها ذكرها بالاتفاق

أحد أبنائك يقضي أغلب أوقات يومه في الألعاب الإلكترونية

خصص له وقتاً لهذه الألعاب، وقدّم له ألعاباً إلكترونية تفيده وتنمّي ذكاءه.

 

هذه بعض الأمثلة التي تمر عليك في يومياتك مع أبنائك، قدمتها لك على طريقة هذه النصيحة كي تمنع اختيارات أبنائك الضارة ومن ثمّ تقدّم لهم بديلاً نافعاً ومحبباً، ففي هذه الحالة تخرج فائزاً مستفيداً أنت ومن معك في هذه المواقف لأنّك:

1-    أبعدت عن أبنائك اختياراتهم الضارة.

2-    قدّمت بديلاً مبهراً لهم ومحبباً إليهم.

3-    ساهمت بتقديم بديلٍ يقدّم لهم الإضافة والإستفادة.

4-    كسبت حب وثقة أبنائك.

هي فوائد أربعة – وربما أكثر – حسب المواقف والبدائل، خرجت بها أيّها المربي عندما طبقت هذه النصيحة الفخمة

 

·      فلسفة شغل الوقت:

الفلسفة تعني تفسير الأشياء والوصول إلى حكمتها، والحكمة من شغل أوقات الأبناء كبيرة جدّاً في حاضرهم ومستقبلهم، فعلى سبيل المثال: عندما تعلّم أحد أبنائك مهارة السباحة فأنت في هذه الحالة كسبت أموراً عديدة تتعدى شَغل وقتهم وتعليمهم هذه المهارة، بل تكون كذلك قد ساهمت بهذا التصرف في تربيتهم على تحمل المسؤولية وكسر حاجز الخوف لديهم ومخالطة الناس واعتمادهم على أنفسهم وغيرها، فهذه هي بالتحديد الحكمة من ملء وقت الفراغ، فإنّها تعلّمهم مهارات الحياة بشكل غير مباشر، وقس عليها باقي المهارات العملية مثل ركوب الخيل والرماية وكرة القدم وغيرها.. فلكل هواية عملية عدد من المهارات الفكرية والنفسية والسلوكية المكتسبة.

 

المصدر: كتاب كيف نربي في الزمن الحديث؟ (12 قاعدة مبسطة ومبتكرة) للكاتب عبدالمحسن العصفور

ارسال التعليق

Top