هناك مَن إذا ذكرت اسمه، شعرت بنفسك تدخل في كهوف التاريخ لتبحث عنه، لتحمل شمعةً هنا وهناك، حتى تستطيع أن تعرفه وتتعرّف فكره وحياته.
وهناك مَن إذا ذكرته، شعرت بأنّ اسمه يتجاوز الزمن، ويحلّق في الآفاق الواسعة التي تطلّ بك على المطلق، ويطوف بك في كلّ موقع من مواقع الحياة، حتى إنّك تفتش عن شيء لم يتحدّث عنه تصريحاً أو إيحاءً أو إيماءً، فلا تجد هناك شيئاً من ذلك. وعندما تدخل عقله، فإنك ترى العقل الذي كله شروق، خلافاً لكثير من العقول التي إذا دخلتها، فقد تحتاج إلى كثير من العناء لتتلمّس [ملامحها]...
هناك أشخاص إذا ذكرتهم، تشعر بأنهم ينطلقون بك في التّجريد، حتى لتحسّ في نفسك معهم بأنّك تبتعد عن الحياة.. وهناك أناس إذا ذكرتهم، شعرت بأنهم إذا أمسكوا المجرّد بفكرهم، أعطوه حركيّته وأنزلوه إلى الواقع.
ذلك هو عليٌّ (عليه السلام)، الذي إذا حاصره التاريخ ليبحث عن بعض الحواجز التي كانت تنتصب أمامه، وعن الدوائر التي أُريد له أن يُحاط بها، وعن الآفاق الصّغيرة التي حُشَر اسمه فيها، وعن العصبيّات التي أُريد له أن يُكتب في عنوانها، فإنك لن ترى عليّاً في كلّ ذلك.
لأنّ عليّاً (عليه السلام) هو الإنسان الذي عاش حياته كلها مع الله تعالى، لا صوفيّةً تختزن المشاعر، ولكن انفتاحاً يجعلك تعيش مع عباد الله لتحسّس آلامهم ومشاكلهم، ولتبدع لهم من خلال الله في عقولهم عقلاً، ولتُبدع لهم من خلال وحي الله في فكرهم فكراً، وهو الذي عاش كل قلبه مع الله.
ولذلك، كان يعيش مع الناس بقلبه الذي يشعر وهو في قمّة السلطة: «لعلّ بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له بالقرص».
شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)
{ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشرِي نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد} (البقرة/207).
{إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(المائدة/55).
هاتان الآيتان نزلتا في الإمام عليّ (عليه السلام).. نزلت الآية الأولى ليلة الهجرة، عندما بات(عليه السلام) على فراش الرسول ليغطي انسحاب رسول الله (من مكة)، وليشهد الله على إخلاصه لرسوله، لأنّ الإخلاص للرسول إخلاص لله.
والآية الثانية نزلت عندما كان (عليه السلام) يصلّي في المسجد، ودخل سائل، فلم تشغله صلاته عن أن يتصدّق بخاتمه على السّائل.
كان كل شيء في شخصيّته (عليه السلام) في خدمةً لله، وهكذا كان سيفه وبطولته وشجاعته، لا في خدمة الذّات، وإنما في خدمة الله.
لم تكن الشجاعة والبطولة عنده حالة ذاتية، ولم يكن السلاح ملكاً شخصياً له، فهو يعتبر ذلك ملكاً لله، لهذا كان لا يحرّك سلاحه إلاّ في المواقع الّتي يريد الله منه أن يحرّك سلاحه فيها، كان ينتظر أمر الله، وينتظر المعركة التي يشعر بأنَّ الله يرضى بها، ولا يسمح لنفسه بأن يدخل في أية معركة يمكن أن لا تكون في رضا الله، أو يمكن أن تسيء إلى الإسلام.
وهكذا إذا درسنا حروب عليّ (عليه السلام)؛ منذ الحرب التي بدأها في بدر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى الحرب التي انتهت بها حياته بعد ذلك مع الخوارج، نرى أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان يبحث عن الأساس الشرعي للحرب، وكان يريد أن يعرف كيف تتحرّك الحرب في طريق الله وفي طريق الإسلام، ولا تتحرّك في طريق الذات وطريق الشهوات.
وهكذا رأينا عليّاً (عليه السلام) في سلمه وحربه؛ فهو يسالم، لا لأن مصلحته الشخصية تفرض عليه السِّلم، ولكن كان يسالم إذا كانت مصلحة الإسلام تفرض عليه السلم، حتى لو كان السِّلم على حساب قضاياه الخاصّة، ولهذا كان يقول: «لأسْلمَنَّ ما سلمت أمور المسلمين».
كان يسالم عندما يرى أنّ قضايا المسلمين تفرض عليه أن يسالم، ويحارب عندما يرى أنّ حياة المسلمين ومصلحة الإسلام تفرض عليه أن يحارب، كانت حربه منطلقاً في طريق الله، وكان سلمه متحركاً في طريق الله.
عندما انطلق الإمام (عليه السلام) في حياته، كان يستصغر كلَّ من حوله أمام الله، ولهذا لم يكن يخاف من أحد، لأنّ خوف الله قد شغله، ولأنّ شعوره بعظمة الله جعله ينشغل عن النّظر في عظمة الآخرين.
ولهذا كان عليٌّ البطل الّذي لا يخاف، كان الكرّار غير الفرّار، قالها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يفتح للمسلمين سرّ شخصية الإمام عليّ (عليه السلام): «لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه».
يحبّ الله، فيكرُّ على أعداء الله، ويحبّه الله، فيستمدّ القوّة من محبّته ليثبت في المعركة، لأنه يشعر بأنه برعاية الله يتحرّك.
هذه الروح التي أراد الإمام عليّ (عليه السلام) أن يجعل الناس يتحركون من خلالها، لأنّ أية قضية وأية مشكلة وأية معركة، إذا لم تكن منطلقة من عمق الإيمان ومن روحيّته، فإنها تظلّ معركة على السّطح، وتظلّ معركة لا تثبت فيها الأقدام.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق