• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ألــوان الحـوار

أسرة البلاغ

ألــوان الحـوار

◄إمّا أن يكون الحوار جادّاً وعقلانياً وهادئاً ونظيفاً وقاصداً – من قبل أطرافه المشاركة – للوصول إلى الحقيقة بغض النظر على يدي مَن ستنجلي، وإلّا فهو واحد من الحوارات السلبية التالية.

فقد يكون الحوار (حوار الطرشان) أي المحاورة التي لا يفهم فيها المتحاوران بعضهما البعض. فمهما طال هذا اللون من الحوار فإنّه لا ينتهي إلى نتيجة حاسمة، وإلّا فهل رأيت أطرشين استطاعا أن يتحاورا بإيجابية؟

نعم، يمكن أن يتفاهما بالإشارات وهي لغة لا تعدّ بديلاً كافياً للغة الحيّة التي قوامها الكلمات، لكنّ المراد بـ(حوار الطرشان) الكناية عن الحوار الكلامي الذي يصطدم بآذان مغلقة وقلوب مقفلة من قبل الأطراف المتحاورة كلها.

أرأيت – مثلاً – كيف يتهرّب شاب تحاوره في الالتزام الديني وضروراته الحياتية، وإيجاد حالة من الاستقامة لدى الإنسان المتدين.. أرأيته كيف يغلق سمعه عن دليلك المقنع، ليقول لك: الاستقامة يمكن أن تتحقق بلا حاجة إلى إلتزام ديني.. وإذا قلت له، قد يكون ذلك، ولكن مَنْ يضمن البقاء على الاستقامة؟ فقد يقول لك متهرباً من الإجابة، حدثني عن شيء آخر غير هذا.. الحياة تطورت وأنت لا تزال على أفكارك القديمة.. وإلى ما يجره مثل هذا الحوار الذي يشعر أحد الطرفين أنّ الآخر (أطرش) وإن كان يسمعه جيِّداً.

وقد يكون الحوار (صراع ديكة) أي ملاسنة وتشاتماً وتلاطماً واحتداماً وتراشقاً بالنظرات الشزرة والتلويح بالأيدي، وكلمات لا رابط بينها، وخروجاً عن سياق الحوار إلى المهاترات.

وهذا ليس من الحوار في شيء، ولعلّ تعبير (ملاسنة) أصدق عليه، ومثله الحوار الذي يشبه المصارعة أو الملاكمة، فهو يجري داخل (حلبة) يفكّر كلّ من المتحاورين أن يسجّل فيها نقاط الغلبة على الآخر والانقضاض عليه في كلّ لحظة، والانتصار لرأيه حتى ولو كان خاطئاً.

وهذا أيضاً ليس من الحوار السليم، وإنّما هو إبراز للعضلات الفكرية والثقافية والتظاهر أمام المستمعين بأنّ الأقوى هو الذي يردّ ردّاً مفحماً، وليس الذي يقدّم أدلّة مقنعة.

وقد يكون الحوار ترفياً وتنظيرياً يتناول مسائل هامشية أو تافهة أو عفا عليها الدهر فلا هي بنت الساعة ولا بنت الساحة، وقد تكون مما أشبع بحثاً ونقاشاً، ولا يصب في خدمة أحد.

ومثل هذا الحوار غير المسؤول، أو حوار الثرثرة قد يكون جدلاً بيزنطياً، أي عقيماً لا يجنى منه شيء، وعادة ما تجري مثل هذه الحوارات في أوقات الاسترخاء والتخلّف.

وقد يكون الحوار جادّاً لكنّه مبتور، أي يجري في إطار نظري بحت ويغفل الجانب العملي التطبيقي، فأنت قد تناقش في ضرورة إشراك الشباب والطلبة في الفعاليات الاجتماعية، لكنّك لا تقدّم الآليات والصيغ المناسبة لهذا النوع من المشاركة، وحتى يكون الحوار حواراً عملياً لابدّ من استكماله أو إدارته في الجانبين النظري والعملي.

 

أدوات الحوار:

لا نريد أن نشبّه الحوار بمعركة لنقول إنّ على كلّ من المتحاورين أن يحمل أسلحته ومعدّاته معه، فالحوار ليس ساحة قتال ولا حلبة مصارعة، وإنّما هو مجال إنساني فسيح ومفتوح بينك وبين الآخرين، وهو قرار ضمني غير معلن أنّ (العقل) هو الحاكم على الفكرة أو الأطروحة أو الخلاف أو أيّة قضية خاضعة للنقاش، أي بمقدار ما تملك من أدلة عقلية وعلمية تدعم بها رأيك، بمقدار ما تكون قريباً من الحقيقة.

ولذا فإنّك إذا أردت أن تدخل حواراً، فإنّ عليك أن تستحضر أدواته وهي:

1-    الثقافة: ونعني بالثقافة، ثقافة الموضوع الذي تريد إدارة الحوار حوله، أي التوافر على معرفة لا بأس بها في أبعاد الموضوع وتصوراتك وقراءاتك عنه. وإلّا فإنّك إذا دخلت في حوار حول موضوع تجهله أو لا تملك الإحاطة به فإنّك ستكون الطرف السلبيّ فيه.

ولذا فقد اعتبر التكافؤ بين المتحاورين شرطاً من شروط الحوار. ونعني بالتكافؤ أو النديّة أن يحمل كلٌّ من المتحاورين ثقافة ما يريد النقاش أو المحاورة فيه حتى يتحقق عنصر إثراء الحوار والنظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة.

2-    الأدلّة والأرقام: أو ما يعبّر عنه بالحجّة والبرهان، فلا يكفي أن تمتلك منطقاً جميلاً ولساناً لذقاً لتدخل في حوار، بل لابدّ من امتلاك الأدلة الدامغة التي تثبت بها رأيك وتقنع بها محاورك ومَن يستمعون إليك، ولابدّ أيضاً من الاستناد إلى لغة الأرقام والإحصاءات ونتائج الدراسات والاستطلاعات حتى تدعم ادعاءك وتصوراتك، وكذلك إيراد الأمثلة والشواهد الحيّة التي تعطي لما تقوله قيمة يعتدّ بها.

3-    شخصية المحاوِر: فكلّما كان المحاور هادئاً، صبوراً، حاضر الذهن باحثاً عن الحقيقة، متواضعاً، ولا يريد فرض قناعاته على زميله، ويتوافر على شروط الحوار وأخلاقيته، أدّى ذلك إلى أن يكون الحوار فرصة غنيّة، وأرضاً خصبة يطلعُ رأسُ الحقيقة من تربتها المحروثة بعناية، والمزروعة بعناية، والمسقيّة بعناية.

4-    الجوّ والمناخ الذي يدور فيه الحوار: فقد يكون الحوار بين اثنين جاداً نافعاً، ولكن إذا حضر أو استمع إليه غيرهما، فقد يخرجان أو أحدهما عن وقاره واتزانه، مما يُدخل الجمهور المشاهد أو المستمع كعامل من العوامل المؤثرة على سير وطبيعة الحوار.

وقد تكون الأجواء المحيطة بأصل انعقاد الحوار أجواء مكهربة نتيجة الحساسيات التي تتحرك في الساحة التي ينحدر منها المتحاوران، أو الآراء المسبقة التي يحملها كلّ منهما عن الآخر، ولذا توصف مثل هذه الحوارات بأنّها تولد ميتة لأنّ الأجواء المريضة التي يحصل فيها الحوار لا تفسح المجال للمتحاورين أن يتحاورا بطريقة (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).

فهذه الطريقة التي استخدمها النبيّ محمَّد (ص) ونجح فيها أيّما نجاح تتلخص في أنّك تجلس إلى محاورِك وتقول له: دعنا ننفض يدينا مما لدينا ونبدأ حوارنا بدون قناعات أو أحكام مسبقة أو جامدة، ولنترك للحوار أن يأخذ مجراه وصولاً للحقيقة. وبمعنى آخر، أن تقول له: دعنا نحرث الأرض، لنبدأ بزراعتها من جديد، وأي غرسٍ أزكى وأنمى هو الذي سيأخذ طريقه إليها.

حاوره في تصوراته وآرائه وقناعاته كما لو كنت مؤمناً بها، واترك له أن يحاورك في تصوراتك وآرائك وقناعاتك كما لو كنت في شك من قناعاتك.

5-    إدارة الحوار أو أسلوبه: فالإثارة قد تعقّد الحوار وتفسده، أي أنّك إذا غمزت صاحبك، أو طعنت في مقدساته، أو ركّزت على الماضي ونسيت الحاضر، أو استغرقت في التفاصيل وأهملت الأولويات، فإنّك ستنتهي إلى نتيجة سلبية في الحوار، أو في الأقل لا تصل إلى النتائج المرجوة.

 

شروط الحوار:

للحوار شروطه التي تحدّدت عبر هذه الرحلة الطويلة من المناقشات والمناظرات والجدل، وأهمّها ما يلي:

1-    أن لا يقع المتحاورون في مطبّ (الغضب) لأنّ الغضب بطبيعته يفقد التوازن، ويغيّب العقل، ويفسح المجال للكلمات العنيفة والنابية للطغيان على الحقيقة.

2-    أن لا يعجب المحاور بنفسه، وقد يحمد الله على أن مكّنه من الانتصار للحقيقة التي هي ملك الجميع ولا أحد يمتلكها لوحده، لكن اعجاب المحاور بنفسه هو شعور بالغرور والتعالي على نظيره المحاور الآخر، مما يفقد المحاورة جوها الهادئ المتزن، وينقلها إلى جو نفسي ضاغط.

3-    على المتحاورين اجتناب الأحكام الظالمة أو المتجنّية، فالإنصاف مطلوب من كلا المتحاورَين أو مجموع المتحاورِين. فحتى لو قال محاورُك ما يخالف رأيك تماماً، أو كشف لك خطأ رأيك، أو بعض جوانب الخطأ فيه، فلا تعتبر أنّه قال ذلك بدافع اسقاطك أو اهانتك أو التجرؤ عليك، فالمصارحة والمكاشفة والنقد الموضوعي لابدّ منها في سبيل الوصول إلى الحقيقة. وقد قيل: "مَنْ ثلب ثُلب".

4-    ومن شروط الحوار أن تُقبل على محاورك هاشّاً باشّاً، وأن تشعره بأنّك وهو تسعيان لتحقيق هدف واحد وهو الوصول إلى الحقيقة، ومهما كانت النتيجة فأنتما إخوة وأصدقاء أو شركاء أو زملاء أكفّاء، ذلك أنّ الأخوّة والصداقة فوق الاختلاف في الرأي، ولذا قيل: "إنّ الاختلاف في الرأي لا يفسدُ للودّ قضيّة".

5-    إذا جوّز أحد المتحاورين لنفسه شيئاً، فليجوّزه للآخر، لأنّهما يقفان على قدم سواء، والجائز جائز للجميع، والممنوع ممنوع على الجميع، وفي كلّ الأحوال فإنّ خروج الحوار من (هدف البحث عن الحقيقة) إلى المغالبة واستخدام أي أسلوب للوصول إلى الغلبة، يحكم على الحوار وعلى المحاور أو المتحاورين بالفشل.

6-    وأن يكون المتحاوران أو المتحاورون متماثلين، ولا يعني التماثل التطابق، فلكلّ إنسان شخصيته وثقافته وأفكاره وآراؤه التي يحملها وطريقته في التحاور. لكننا نقصد بذلك أن يكونا من أصحاب الاهتمام المشترك، والمشتغلين في حقل الموضوع المطروح للحوار حتى يتمكنا من الخروج بنتائج تخدم الحقيقة.►

ارسال التعليق

Top