• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاكتئاب في التراث والشعر العربي

د. لطفي الشربيني

الاكتئاب في التراث والشعر العربي
◄الأدب والفنون هي أشكال من التعبير عن الفكر الإنساني، وتحمل في طياتها على مرّ العصور انعكاساً للمشاعر الإنسانية المختلفة التي تعبر عن مواقف الحياة بما تزخر به من أحداث وصراعات وخبرات سارة، وأخرى أليمة، وإحدى أهم هذه الخبرات وأعمقها أثراً في النفوس هي حالة الحزن والكآبة التي تلبث تنتاب الإنسان من حين إلى آخر منذ الخليقة وحتى يومنا هذا بدليل ما تركته من بصمات على نتاجه من تراث الآداب والفنون.

 

الاكتئاب في تراث القدماء:

إذا تتبعنا الفكر الإنساني منذ أقدم العصور نجد رنة الحزن والاكتئاب تشيع في ثناياه حتى ليخيل إلى المرء انّ الكآبة واليأس ترتبط بالإنسان منذ يولد وحتى يستقر في قبره، ففي ما وصل إلينا من التراث الحضاري لمصر القديمة نجد أنّ أساطيرهم تعبر عن مآس متنوعة، فقصة الصراع بين الخير والشر التي ترمز لها أسطورة "إيزيس وأوزوريس"، وارتباط نهر النيل بالدموع المنهمرة، وغير ذلك مما أرسى منذ ذلك الحين طبائع اكتئابية راسخة لا تزال قائمة في مصر حتى يومنا هذا حيث يشترك الشعب بأكمله في تقاليد عميقة للأحزان، بينما لا يوجد للأفراح لدينا عادات بنفس العمق والاتساع.

 

الاكتئاب في تراث القدماء:

في الكتابات التأريخية الإغريقية القديمة، ورد وصف الجنون، وحظيت حالات الاكتئاب بالذات بوصف لا يضفي عليها في الغالب صفة المرض العقلي فنظر إليها على أنّها تغير في الوجدان والمشاعر استجابة لمآسي الحياة تارة، ونتيجة لغضب الآلهة تارة أخرى كما تذكر الأساطير، ومن أطراف هذه الأساطير ما يرجع آلام الإنسان في هذا العالم إلى ما فعلته به الآلهة حين شطرته إلى نصفين، الذكر والأنثى، وصار على كلّ جزء أن يبحث عن شطره الآخر في كلّ العالم فلا يجد أي نصف آخر لا يتوافق معه، ويستمر العذاب.

وفي تراث بلاد ما وراء النهر تدل الأساطير الهندية القديمة على نفس الاتجاه فقد طلب أحد الملكوك من علمائه أن يكتبوا له كلّ تأريخ حياة الإنسان، فأتوا له بمجلدات هائلة تضم ما أراد، لكنه كان يحتضر فطلب منهم تلخيص كلّ ما سجلوه عن حياة الإنسان باختصار شديد، فقال له كبيرهم: "الإنسان يولد، ويتألم ويموت"!

 

الاكتئاب في آداب الشرق والغرب:

ولقد رسم "شكسبير" في شخصياته نماذج تكاد تكون حية لحالات تعبر عن شتى المشاعر الإنسانية، ومنها حالة الحزن والكآبة، ولعل في شخصية "هاملت" مثالاً لذلك حين يتحدث فيصف يأسه من كلّ العالم من حوله، وكيف انّه قد فقد الاستمتاع بكلّ متع ومباهج الحياة، وفي كتاباته الأدبية يتحدث "شكسبير" عن "الحزن الذي لا يجد متنفساً بالكلام، فيهمس إلى القلب فيكسره"، وهذا هو نفس مضمون عبارة مآثورة ذات محتوى علمي للطبيب الشهير "مودزلي" يقول: "إنّ الحزن الذي لا نعبر عنه بالدموع، يتجه إلى أعضاء الجسم ويحطمها".

وقد ارتبط الاكتئاب بالمثالية لدى العديد من الأدباء والكتاب، ومنهم "شوبنهاور" الألماني الذي حدثت في وقته واقعة الانتحار الجماعي في ألمانيا في مطلع هذا القرن، ويذكر لنا التأريخ انّ العديد من العظماء والمبدعين في الفن والأدب والسياسة قد اتصفوا بما يشبه الاكتئاب النفسي الذي كان يبدو عليهم في أحوال من التطرف تصل إلى الجنون أحياناً، من هؤلاء "ابن الرومي" الشاعر العربي المعروف الذي اشتهر بالتشاؤم وتوقع النحس، وشاعر فرنسا "بودلير" الذي كانت تنتابه الكآبة باستمرار، وفي السياسة هناك "تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا أبان الحرب العظمى الأخيرة حيث كان يعاني من الاكتئاب في أواخر أيامه وكان يتوهم عند وفاته انّه مطارد من كلب أسود، و"فان جوخ" عرف بحالة الاضطراب النفسي الشديد التي تنتابه حتى لقد قطع أذنه اليسرى ذات مرة ليهديها إلى امرأة، ولعل من أشهر لوحاته ما تحمل اسم "المكتئب"! كما يوجد لوحات أخرى من الفن العالمي تحمل عنوان "الاكتئاب" و"الصرخة"، وغير ذلك من دلالات الاكتئاب.

 

الاكتئاب.. في الشعر العربي:

الشعر وهو الكلمة المنظومة وأحد من أرفع الأساليب التي يستخدمها الإنسان للتعبير عما يجيش في نفسه من مشاعر وخلجات، ولقد بقي الشعر على مرّ العصور ورغم ما حدث من تغيير في شكله ومضمونه – الوسيلة القادرة على التعبير اللفظي عن الشعور الإنساني في مواقف الحياة المختلفة بما فيها من أحداث، وصراعات وانفعالات، وخبرات سارة، وأخرى أليمة.

ولعل الحزن والكآبة هي من أكثر التجارب الأليمة التي يمكن أن تتحول في خيال الشاعر إلى تجربة شعورية توحي إليه بأشجى الأشعار، ولعل من فضل المصائب على الإنسان انّها تعيده بالألم إلى إنسانيته فإذا به يتحول إلى قيثارة تعزف لحناً يفيض بالشجن، وتزدحم كتب الشعر العربي بأشعار تعبر عن هذه التجربة في مناسبات مختلفة، وربما كان أهمها التأثر بفقد عزيز أو حبيب حيث نرى من المراثي العديدة في كلّ العصور ما تضيق به المجلدات نسوق البعض منها.

يقول أبو العلاء المعري في رثاء صديق له:

غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي *** نوح باك ولا ترنم شادي

ويقول:

إنّ حزناً في ساعة الموت أضعا *** ف سرور في ساعة الميلاد

ويقول جرير يبكي زوجته:

لولا الحياء لها جني استعبار *** ولزرت قبرك والحبيب يزار

لا يلبث القرناء أن يتفرقوا *** ليل يكر عليهم ونهار

ومالك بن الريب يرثي نفسه بأبيات من الشعر مؤثرة ألقاها وهو يحتضر:

ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة *** بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه *** وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

فهو يتمنى لو تتأخر وفاته ليعود إلى أهله ووطنه ولا تنتهي حياته بهذه الصورة.

وعلى زوجته أيضاً بكى محمود سامي البارودي في منفاه:

هيهات بعدك أن تقر جوانحي *** أسفاً لبعدك أو يلين مهادي

ولهي عليك مصاحباً لمسيرتي *** والدمع فيك ملازم لوسادي

 

أسباب ومظاهر الاكتئاب في الشعر العربي:

ويقول شوقي أمير الشعراء في تأملات عن الحياة والموت:

خلقنا للحياة وللممات *** ومن هذين كلّ الحادثات

ومهد المرء في أيدي الرواقي *** كنعسن المرء بين النائحات

وما سلم الوليد من اشتكاء *** فهل يخلو المعمر من اذاة

ومن مشاعر الكآبة ما يرتبط بتقدم العمر حين يتذكر المرء الشباب ويأسي على ما آل إليه، وهذا الشاعر يصف لنا في أبيات مرض الاكتئاب في السن المتقدم يقول:

سلني انبئك بآيات الكبر *** نوم العشاء وسعال بالسحر

وقلة النوم إذا الليل اعتكر *** وقلة الطعم إذا الزاد حضر

وسرعة الطرف وتدقيق النظر *** وتركك الحسناء في قبل الطهر

والناس يبلون كما يبلى الشجر

ويقول زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة:

سئمت تكاليف الحياة  ومن يعش *** ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

ويقول أبو العتاهية يبكي الشباب ويتمنى لو تعود أيامه:

بكيت على الشباب بدمع عيني *** فلم يغن البكاء ولا النحيب

ألا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب

ويبدو أنّ هذا الموضوع أثير إلى نفوس الشعراء ففيه يقول إلياس فرحات:

بكيت فقال أصحابي: أتبكي؟ *** فقلت مضى الشباب فهل أغني؟

دعوا دمعي يسيل فما لمثلي *** شعور المستريح المطمئن

والذي يلفت الانتباه هو تفوق الشعراء في وصف تجربتهم مع الاكتئاب، حتى ليكاد المرء يعيش ما يعانونه من حزن وأسى عميق، ويقول شاعر في وصف حالة الكآبة الشديدة التي يعانيها:

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى *** وتحتي بحار بالأسى تتدفق

ويقول أبو نواس ينعي حظه:

فثوبي مثل شعري مثل حظي *** سواد في سِواد في سواد

وله أيضاً:

ولو عرضت على الموتى حياة *** بعيش مثل عيشي لم يريدوا

ويقول إلياس فرحات:

كتاب حياة البائسين فصول *** تليها حواش للأسى وذيول

وما العمر إلّا دمعة وابتسامة *** وما زاد عن هذي وتلك فضول

وعن مشاعر الأسى التي تستبد بالمكتئب فتحرمه النوم في ليلة، فإذا استيقظ كانت حالته أشد سوءاً، وهذا ما تصفه الخنساء في إحدى قصائدها في رثاء أخيها صخر مطلعها:

يورقني التذكر حين أمسي *** فأصبح قد بليت يفرط نكس

وفي هذا يقول المتنبي:

أرق على أرق ومثلي يأرق *** وجوي يزيد وعبرة تترقرق

جهد الصبابة أن تكون كما أرى *** عين مسندة وقلب يخفق

ويقول آخر في نفس المعنى:

نفى النوم عن عيني فالفؤاد كئيب *** نوائب هم ما تزال تنوب

وإني لآرعي النجم حتى كأنني *** على كلّ نجم في السماء رقيب

وعن تلك الفئة من مرضى الكآبة الذين يخفون حقيقة مشاعرهم خلف قناع حتى ليحسب المرء انّهم ينعمون بالراحة، والواقع انّهم في معاناة طاغية داخل نفوسهم، عن ذلك يقول المتنبي:

رب كئيب ليس تندى جفونه *** ورب كثير الدم غير كئيب

ويقول إبراهيم ناجي في "الأطلال":

انظري ضحكي ورقصي فرحاً *** وأنا أحمل قلباً ذبحاً

ويراني الناس روحاً طائراً *** والجوى يطحنني طحن الرحى

يحاول الشعر النفاذ إلى أبعاد أعمق تتصف بالتأمل في أحوال النفس الإنسانية، ولعل في هذه الأبيات تأكيداً حول مفهوم النفس وطبائعها ويقول الشاعر أبو الفتح البستي:

لكلّ إمرئ منا نفوس ثلاثة *** يعارض بعضها بعضاً بالمقاصد

فنفس تمنيه وأخرى تلومه *** وثالثة تهديه نحو المراشد

ويقول شوقي:

والنفس من خيرها في خير عافية *** النفس من شرها في مرتع وخم

 

الشعراء يصفون العلاج للاكتئاب:

كان مجال التداوي من الكآبة والتخلص منها أحد الأمور الأثيرة لكثير من الشعراء، فكانت بضائعهم بمثابة علاج نفسي وتذكرة دواء تتمثل في أبيات من الشعر، يقول إيليا أبو ماضي:

أيها ذا الشاكي وما بك داء *** كن جميلاً ترى الوجود جميلاً

والذي نفسه بغير جمال *** لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

أحكم الناس في الحياة أناس *** عللوها فأحسنوا التعليلا

هو عبء على الحياة ثقيل *** من يظن الحياة عبئاً ثقيلاً

نصيحة أخرى من المتنبي هذه المرة:

لا تلق دهرك إلّا غير مكترث *** ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يدوم سرور ما سررت به *** ولا يرد عليك الغائب الحزن

وشاعر آخر يصف العلاج فيقول:

واطرح همومك خلف ظهرك انها *** نبع التعاسة مهد أسقام الورى

وفي مقابل من يدعون إلى التفاؤل ويصفون الحل والعلاج هناك من يفوقهم عدداً ويدعو إلى عكس ذلك بما يشيع في أبياتهم من روح اليأس والتشاؤم، وهذه أمثلة لذلك:

 

تعست هذه الحياة فما يسعد *** فيها إلّا الجهول ويرتع

هي دنيا في كلّ يوماً ترينا *** من جديد الآلام ما هو أوجع►

 

المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب

ارسال التعليق

Top