◄حكايةُ ثورة الحسين، حكاية ثورة الإنسان بكل ما فيه من سُمُو وإباء، والمؤمن بكل ما تحتوي عليه كلمة الإيمان من صدق وثناء، والمصلح بكل ما تستلزمه أبعاد الحروف من حقِّ ونجدة ومروءة ووفاء.
ثورة الحسين ثورة إنسان كمل في إهابه معنى الرشد، وحقيقة الوعي، وروح الإيمان وسرّ العلو المطلق، فتشكّل في حياته دليلاً أميناً لطلاب الحق، وبعد مماته أمثولة رائعة حازت شرف الأسوة في خطٍ مشروعٍ نقلاً وعقلاً، وبقي مَن واجهه رأساً في حربة الظلم والغدر والإثم، ذات نتاج الفساد والخديعة والشر. سيبقى الحسين الثائر يعلّم الناس من خلال ثورته كيف يموتون، لأنّ الموت فنٌ كالحياة، فمن لم يختر الشهادة النبيلة فسيختاره الموت الوضيع، والشهادة قيمة طغراء في صفحة الولاء بعد الثناء. علّم الحسين مَن بعده كيف تُعتنق المبادئ، وكيف تُحرس، وكيف يُقدَّس الإيمان، وكيف يُدافع عنه، وكيف يكون الموت من أجل العقيدة، وكيف يحيا كريماً من تبنّاها عَرِيّة عن الخَطَل، مرعية الصلة بالخالق الأعظم. ثار الحسين (ع) ضد الظلم، وأي إنسانية أعظم من أن تثور ضد الجور والحيف، وتأتي بالعدل عنواناً صادقاً لمجتمع الأفراد وأفراد المجتمع؟ نظم الحسين عاشوراء الزمان وكربلاء المكان في سلك الشهادة، ووضعها قلادة على جيد التاريخ، تاريخ الإصلاح، فتحوّلت بعده كلُّ ذكرى للزمن إلى عاشوراء، وأضحت كلّ مناسبة للمكان كربلاء. مات الحسين، ولكنّ موته لم يكن – أبداً – هموداً ولا رقوداً، بل هو خروج الحركة عن قطبها لتحلّ منتشرة في ثوّار كُثر، ففي روح كلّ مصلح لمعة من روحه، وفي ضمير كلّ مجاهد قبسات من عطائه. دمُ الحسين رُواء أنعش الأرض، فأنبتت طُهراً وطيباً استمرّا وبقيا، وسيف المناوئين الطغاة أُعيد على رقابهم شؤماً منفِّراً ولعنة قصمت الظهر والذكر، ورضي الله عن عقيلة بني هاشم، زينب الفضل، إذ خاطبت هؤلاء: كد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب عداوتك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، والويل لك يوم ينادي المنادي: (ألا لعنة الله على الظالمين)". الحسين (ع) في حياته، وبعد استشهاده، إنسان عظيم تهواه الصدور، وشخصية متفوقة لا تتسع لها السطور، والشخصية الكبيرة من الناس هي السدرة التي ينتهي التاريخ إليها مفاخراً بحقِّ. ولمَ لا يكون الحسين كذلك، وهو من انبثق من عظمة النبوّة محمد (ص) فكان السبط الحبيب، ومن عظمة الرجولة علي (ع) فكان الابن الأريب، ومن عظمة الفضيلة فاطمة (ع) فكان البضعة التي تعني في الصلة والوصال أكثر مما يعنيه القريب. هذه بعضٌ من ملامح لم تكن البلاغة فيها على حساب الإبلاغ، بل لقد أصابها القصور أحايين، فلم تعطِ الحقيقة حقَّها، وأين الكلمة – مهما توشّت – من السرّ؟ وأين العبارة – مهما زُخرفت – من القبس العلوي الإلهي؟ وهذه لمحات من حكاية الثائر الأشَمّ، وما اللمحات من تلك الحكاية إلا كقطرة ندى من وابل طيب، به السماء تفخر والأرض تزهر. فاصل مذكِّر من هوية الإمام الثائر: مَن هو الحسين؟ ومَن – هنا – لا تعني السؤال بقدر ما تعني تذكيري ومن معي من بني الإنسان بالوفاء، وليس المقام هنا سرد حياة مفصلة، أو عرض ترجمة في سياق تعريفي مطوّل، وإنما أردنا إعادة عرض بعض اللقطات النورانية عن هذا العظيم الأنور، وإذ تتبدى فإنسانية هي بالتمام والكمال، وإذ تسفر فعظيمة هي بكلِّ المعايير الناطقة بلغة العقل الصائب، والصواب الحكيم العاقل، وإذ تبرز فالملتقى عندها للاتساء والاقتداء. ولنبدأ المشوار مع لقطة يخرجها جدُّ الحسين (ص) بألوان الحبّ وأضواء العطاء: "حسين مني، وأنا من حسين. أحب الله من أحب حسيناً". ويقول الحبيب الأعظم (ص) مرة لابنته السيدة البتول (ع)، وقد سمع حسيناً يبكي: "ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني" وتتابع اللقطة اللؤلؤية العظمى ليقول الجد (ص) عن الحسين (ع): "من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني". ويقول (ص): "الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا". ويقول (ص): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". ويقول (ص) وفاطمة والحسن والحسين – عليهم السلام –: "أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم". وتُقفل اللقطة هذه على توريثٍ عطري عَبِق تأخذ عنها لقطات أُخر، أخرجها وارثون، ورثوا غير الدرهم والديار عن الأسياد، وإنما ميراثهم عنهم العلم الصحيح، وهو الخط الوافر، بل الأوفر. ومن هذه القطات ما كان ابن عمر، يوم كان جالساً في ظل الكعبة، فرأى الحسين (ع) مقبلاً فقال: "هذا أحب أهل الأرض اليوم إلى أهل السماء". وما كان من تائب شبّ عن طوق طغمة آل أبي سفيان، إذ قال: "هذه الخلافة حبل الله، وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله، ومن هو أحق بها منه، علياً بن أبي طالب (ع)، وركب بكم ما تعلمون، حتى أتته منيّته، فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ قلّد أبي الأمر، وكان غير أهل له، ونازع ابن بنت رسول الله (ص)، فقصف عمره وانتبر عقبه، وصار في قبره رهيناً بذنوبه". ثورة الحسين (ع) وفاء للإنسانية والإنسان: للإنسان هويةٌ ثابتةُ السمات، واضحة الصفات، جلية الإبعاد، لا تخفى على ذي لبٍّ منها خافية، وهي – أيّ الهوية – كالسماء الصافية في يوم صاف مزهر. فإذا ران عليها ما يمحو عنها هذه السمات، وتلك الصفات، وهاتيك الأبعاد، حسبتها – والحسبان نظر دقيق – شرسة مشينة، ليس لها عند البهائم من نظير، وخلتها انحطاطاً نوعياً يتعالى عليها بجدارة التدني الوظيفي للحيوان، وصدق الله إذ يقول: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الفرقان/ 44). وسمات الإنسان وصفاته وأبعاده، التي تكوِّن هويته الثابتة هي: العدل والفضيلة والعلم والمسؤولية. ولسنا هنا في صدد تفصيل البحث فيها والحديث عنها، ولكن حسبنا أن نعلن، بعد قراءة مستفيضة لثورة الحسين، أنّ الحسين (ع) كان مَن جمع في إهابه الطاهر وركابه الماهر العدل على أشده ، والفضيلة على أحسنها، والعلم على أوثقه، والمسؤولية على أتمها، فغدا بهذا الطرف الخيِّر الإنساني في صراعه مع الآخرين، الذين أكّدوا بأفعالهم وبأقوالهم بُعداً عدائياً عن العدل، ورفضاً شهوانياً للفضيلة، ونَفرة ملؤها الغرور الحاقد من العلم، وانعتاقاً من المسؤولية الإنسانية، ليُستبدل بها جهر بالفساد وإعلان بالسوء والشر. وها نحن أولاء نذكر بعض ما جاء على لسان سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، يحكي سبب ثورته ودافع قيامه: "هيهات منا الذلة، يأبى الله ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت، وبطون طهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوس أبية. ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه؟! فلا أرى الموت إلا سعادةً، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً " الحق دافعه، والقضاء على الظالم وراء خروجه، ومحو الباطل واستئصاله همه الذي سكن صدره إذ ثار. ويتابع الإمام حكاية سرِّ الثورة فيقول: "إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم. ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرَّمة، ومعلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله". نعم. ومثلُ الحسين (ع) في لُحمة الحقّ ومظهر دين الله، لا يبايع يزيد في لحمة الشيطان، ومظهر الباطل، والإمام المؤهل للمبايعة هو مَن وصفه الإمام الحسين (ع) بقوله: "لَعَمري. ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذُ بالقسطِ، والدائنُ بالحقِّ، والحابسُ نفسه على ذات الله". ولعمري أنا يا إمام، إنّ ما ذكرتَ من صفات الإمام لا يعدوك إلى سواك، ولا يتجاوزك إلى غيرك في عصرك، فأنت العامل بالحقِّ، وأنت الآخذ بالقسط، وأنت الدائن بالحقِّ، وأنت الحابس نفسَك على ذات الله، أوَ لستَ القائل: "إني لم أخرج بَطِراً ولا أشِراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي محمد (ص)". رعيتَ يا حسين الأُمّة فأصلحتَ وقوَّمتَ مسارها، بعد أن كان يَعْوَجُّ – لى أيدي هواة الاعوجاج – عن الجادة الصائبة، فجزاك الله خيرَ ما يجري مصلحاً عن أمته، يا قائد الإصلاح في سياق الإخلاص. وهاكم يا ثوار العالم رسالة الاستنكار، يوجهها بقوة مرسلها، الوثابة روحه، النقيةُ الساميةُ نفسه، إلى مَن حاد عن الحقيقة في توجهاته، فباء بالفشل الذريع في نظر من أوتي عقله حكمة، وقلبه فطنة، وإنسانيته صواباً، يقول في رسالته إلى معاوية: "وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها، ولا أعظمَ نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد (ص) أفضلَ من أن أجاهركَ. لقد قلتَ فيما قلتَ: إني إن أنكرتُك تنكرني، وإن أكدْكَ تكدني. فكدني ما بدا لك، فإني أرجو ألّا يضرني كيدك، وألا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلَك، وتحرَّضت على نقض عهدك، ولعمري ما وفين بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا وقاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقنا. فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس بناسٍ لأخذك بالظِّنة، وقتلك أولياءَه على التُّهم، ونفيِك إياهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب. ما أراك إلا قد خسرت نفسك، وتَبَّرت دينك، وغششت رعيتَك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ الوَرع التقي". وأخيراً: سيدي أبا عبدالله: في ذكرى الاستشهاد الشريف النبيل، أرفعُ لمقامِكَ تحية الحب والوفاء والولاء والثناء، تحية الأمل في أن أُشملَ بشفاعتك يوم اللقاء الأكبر، تحية الرجاء في أن أُسقى من كف جدِّك (ص) على كفك شَربةً لا ظمأ بعدها أبداً، فأنت مَنْ قلت: وفينا كتاب الله اُنزلَ صادقاً *** وفينا الهدى والوحي والخير يُذكر ونحن ولاة الحوضِ نسقي مُحبنا *** بكأسِ رسولِ الله ما ليس يُنكَرُ وإني لأعلنها حباً وشغفاً، فهل تقبلوني؟! سلامٌ عليك يوم ولدتَ، ويوم خرجتَ، ويومَ ثُرتَ، ويومَ استُشهدتَ، ويوم تُبعث شهيداً سيداً في رياضِ الخلود، وسلامٌ عليكم جميعاً آل البيت ورحمةٌ من الله وبركاته، إنّ ربَّي حميدٌ مجيد.► المصدر: مجلة الغدير/ العدد 71 لسنة 2004ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق