أسرة
تلتقي بشخص أو صديق لديه من مُتع الدنيا الكثير؛ لكنّك لا تجده سعيداً.. حتى مسحة السعادة الظاهرة لا تعبِّر عن مكنونات نفسه.. وإذا صادف وفتح لك قلبه وأسرّك أو صارحك عمّا يكابده، فقد تندهش: كلّ هذا اثراء ووسائل الراحة والترفيه وأنت تعاني؟ وقد يشخّص حالته تشخيصاً أوّلياً فيقول لك: شيءٌ ما يعوزني لا أعرف على وجه الدقة والضبط ما هو، ومن طبيعة الإنسان أن يبحث عن الشيء المفقود فلا يكفيه ما تحت يديه، فهو يطلب ما لم تطاله يداه بعد، وذلك هو "النهم" أو "الشراهة" التي لا تنتهي.
قد يكون البحث عن "الجديد" و"المفيد" تطلّعاً إنسانياً، لكنّ "اللهاث" و"الإنكباب" و"التكالب" و"ذهاب النفس حسرات" مرض نفسي لا علاج له إلّا بأن نعتمد قاعدة التوازن والإعتدال في كلّ شيء، وإلّا فحال المتهالك على الدنيا حال الشارب من ماء البحر (وهو مالح طبعاً).. فكلّما شرب منه أكثر إزداد عطشاً أكثر، فلا هو يترك "الإلحاح" و"التكرار" و"إعادة المحاولة" ولا هو يرتوي.
إنّ أصدق تعبير يمكن أن يصفَه به شخصٌ حالة كهذه أن يقول: "لقد ضاقت عليَّ نفسي"! فحينما تضيق نفسك عليك فلا يعود هناك مكان يتسع لها مهما كان واسعاً.. لأنّ "الخارجي" يرتسمُ في أذهاننا من خلال "الداخلي". فإذا كنّا سعداء منشرحين بدا كلُّ ما حولنا سعيداً ومنشرحاً وكأنّه يتعاطف معنا، والعكس صحيح، فالحالة النفسية أو الشعورية هي التي تعزِّز "جمال" و"نكهة" و"حلاوة" الأشياء من حولنا، وصادقٌ هو الذي قال: "كن جميلاً ترى الوجودَ جميلاً" فانبعاث الجمال من داخلنا لا ممّا ترسمه الأشياء في مظاهرها.
يقول "المتنبّي":
ومَن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ **** يجد مُرّاً به الماءَ الزلالا
هو ماءٌ قراحٌ، عذبٌ فراتٌ. زلالٌ، فلماذا أحسُّ بطعمه مُرّاً؟ هل تأكّدت الآن أن مزاجنا والحالة التي نحن عليها هي التي (تقرِّر) ما هو جميل وما هو ليس كذلك؟!
سببان رئيسيان يؤدِّيان إلى ضيق الصدر أو (الإختناق) وعدم استشعار لذّة الماء السائغ العذب، هما:
أ) المزعجات والمنغّصات: من إساءات الآخرين ومكرهم وخداعهم، وكلّ ما يجعلني أضيق ذرعاً بالحياة من الهموم والمشاكل والصعوبات والعقبات والإخفاقات والإحباطات والضغوط والإحتقانات.
ب- إفتقاد الطمأنينة النفسية: وأهم ما يدعو إلى ذلك هو الإبتعاد عن الدين، يقول الله تبارك وتعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 125).
أوّل ما يمكن أن نفهمه من هذا الهديّ الإلهي هو أنّ "الإيمان" يشرح الصدر فينفتح العقل والقلبَ والمشاعر فلا أشعر معه بالإختناق، وإذا حدث وتعرّضت للإختناق ألجأ إليه مرةً أخرى ليرفع عنِّي حالة الإختناق التي أعاني منها..
إنّ البعيد عن الدين كالذي يبتعد عن الأرض في طبقات الفضاء العليا حيث تقل كثافة الهواء، فيصعب عليه التنفّس.. وهذا هو مفهوم الآية الكريمة، لأنّ الذي يشعر بضيق في التنفس يحتاج إلى (الأوكسجين) والدين هو الذي يمدّنا بأوكسجين خاصّ وهو "الإمدادات والألطاف الإلهيّة".. هي التي توسّع ما نشعرُ به من ضيق.. وهذه وصفة لا يقدّر قيمته أو أثر الدواء المذكور فيها إلّا مَن جرّب ذلك بنفسه، نأمل أن تكون ممّن جرّبها وذاق حلاوتها، أو ممّن قرّر تجريبها.
السلامة النفسية إذاً ترتكز – بشكل أساس – على قوّة الإيمان، وأيّة اختلافات أو اضطرابات أو أمراض نفسيّة إنّما هي ناتجة عن اختلال في هذه القوّة.. فـ(الأمن النفسي) الذي يستند إلى الإيمان بالله والآخرة والحساب والثواب والعقاب، وإلى منظومة من العبادات التي يطمئن لها القلب، وتستكين بها النفس، وتقرّ بها العين.. وإلى نظام للسلوك يقوم على الرضا والقناعة والأمل والصبر وحسن الظنّ بالله وحُسن الخلق.. هذا (الأمن) من ذاك (الإيمان)!
هناك قانون نفسي أو معادلة إلهيّة تسلّط ضوءاً إضافياً على هذا المفهوم. يقول الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه/ 124).
"الضنك" هنا كـ"الضيق" هناك، إختناق، مأزق، أزمة نفسيّة حادّة، فمن ابتعد عن "الله" ابتعد عن الرحابة واقترب من الضيق والحرج والقلق والحيرة والمسرة.. هو "مُحاصَر" وإن كان يتحرّك هنا وهناك.. قد يشتري أدوات السعادة؛ لكنّه لا يشعر بها لأنّها لا تشبعه روحياً، ولا ترويه نفسياً.. هو شقي، مُتع الحياة بالنسبة له فقاعات ما أن تنتفخ وتلمع في الضوء حتى تنفجر.. ذلك أنّ لذّة الروح غير لذّة المادة.. فلذّة الطعام بقدر دورانه في الفم، وأمّا لذّة القرب من الله فـ(نعيم مقيم) سل عنها المتذوّقين لها، يُخبروك أيَّ سعادة هم فيها لا تعادلها سعادة الملوك!
بدون ذكر الله.. بدون الارتباط به والثقة به والاعتماد عليه.. لن يكون للحياة سوى لون واحد باهت، وطعم واحد زائل، إنّها حياة جوفاء يطلب أصحابها "الرضا" فيتعبون ولا يجدونه.
أيوب (ع) عاش ذكر الله فهانت عليه ابتلاءاته بصحته وأمواله وأولاده.. ويعقوب (ع) تشربت مسامات قلبه بذكر الله، فخفّ عليه فراقُ ولده لأنّه لم ييئس من روح الله.. ويونس (ع) لم ينسَ ذكر الله وهو في بطن الحوت.. فكان ينتظر حبل النجاة يمدّه الله تعالى إليه وهو في الظلمات.. وإبراهيم (ع) لم يجفّ لسانه ولا قلبه عن ذكر الله وهو في الطريق إلى محرقة النمرود.. والنبي (ص) تمسّك بذكر الله وهو في الغار تطارده قريش لتقتله.. كان مع الله.. فكان اللهُ معه.
هذه هي السلامة النفسية يعيشها المؤمن وهو في قلب الخوف فلا يخاف..
ارسال التعليق