يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 22). ویقول أيضاً عزّوجلّ في ذكر السبب والغاية من إرسال رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). وإذا كان الهدف من الدِّين هو هداية البشر إلى الطريق القويم الذي يربطهم بالله تعالى، فإنّ هذا الدِّين هو رحمة إلهيّة قد لا يشعر بها إلّا مَن اهتدى بهديه. ويقول أيضاً عزّوجلّ في سياق هذه الهداية: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125). هذه الدعوة إلى الهداية، يجب أن تكون بالأسلوب الهادئ الذي يحاول إقناع الآخر بما تحمله من فكر وعقيدة، وأن يكون الجدال مع الآخر بالرِّفق واللّين والخطاب الحسن، البعيد عن التشنج والعنف القولي واللفظي.
وجاء في الحديث: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم». وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين أو نظيرٌ لك في الخلق». والتسامح هو إحدى تلك الأخلاق الفاضلة فهو قيمة إسلامية وإنسانية عالية ورفيعة، تستوجب حرصاً ووعياً من الإنسان إلى أن يلتفت إلى أهميّتها وفاعليتها على مستوى بناء الفرد والجماعة على أُسس قوية ومتزنة وعميقة، تعمل على تنظيم الحياة ومواجهة التعقيدات.. فالتسامح مسؤولية وفعل وممارسة، يعكسها الفرد، كما الجماعة، في مختلف نشاطاتهما. من هذا المنطلق، عليك أن تسعى، إلى جانب عبادتك في هذا الشهر الكريم إلى أن تصفّي النيّة، وتطهِّر ذاتك من كلِّ ما علق بها من أدرانٍ، أن تبعدها عن مشاعر الغلّ والحقد والحسد والكراهية والأذى، أن تصون لسانك من الغيبة والنميمة والبهتان والافتراء، أن تبتعد عن الغشّ والظلم والاستغلال والنِّفاق، أن تمدّ يد العون إلى مَن يحتاج العون، وأن تقف إلى جانب المظلوم والضعيف، أن تنصر الحقّ طالما تستطيع، وأن لا تسيء إلى صورتك كإنسان أبداً، لأنّ إنسانيّتك هي هُويّتك، هي جواز عبورك نحو عالم الإيمان الحقيقي، هي الصفحة البيضاء التي تلاقي بها وجه الله، وهي الجسر الذي يعبر بك نحو جنانه ونعيمه. يقول رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»؟ ويقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10)، فعلينا أن نعيش هذه الأخوّة، فلا يعادي بعضنا بعضاً، ولا يقاطع بعضنا بعضاً، فالأخوّة تفرض علينا أن نكون متحابّين متكافلين متعارضين في وجه كلّ التحدّيات، وأن نجعل من الأخوّة على دين الله قوّةً لنا وطاقةً تدفعنا نحو كلّ شيءٍ حسنٍ يجعل من حياتنا مساحةً للخير والبرّ. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّما أنتم إخوان على دين الله، ما فرَّق بينكم إلّا خبث السرائر وسوء الضمائر، فلا تَوَازرون ولا تَنَاصحون، ولا تَبَاذلون ولا توادّون».
فإذا كنت قد اخترت لنفسك هذا الدَّرب وهذا الثواب، فليكن الشهر الكريم فرصةً لك، لتخرج من كلّ ما يعتمل في داخلك من مشاعر سلبية تجاه مَن حولك، ولتبدأ، بشجاعة، في رحلة التحرّر منها؛ بالتقرّب ممّن ابتعدت عنهم وهم بحاجة إليك، وبالاعتذار ممّن أخطأت بحقّهم، وبردّ ظلامة من ظلمتهم أو أسأت إليهم، وبالتوقّف عن كلّ غيبة للآخرين تسيء إليك قبل أن تسيء إليهم. وإذا كان هناك من ظلمك أو أذاك أو أساء إليك، فليكن العفو منك والمسامحة، والعمل على حلّ الخلافات بالحبّ والاستيعاب والابتعاد عن التشنّج، طالما تجد إلى ذلك سبيلاً. ما أجمل أن نخاطب في الآخر إنسانيّته، وأن نفتح قلبه على الخير والمحبّة والإحساس الجماعي المنتج والمثمر، وأن نفتح عقله على حبّ المعرفة في خطّ الله، وأن نخاطب فيه كلّ نقاط الاشتراك فيما بيننا، وننمّيها كي نصل إلى برّ الأمان، ولا نسيء إلى الواقع، بل نحميه من الجهل والغشاوات في البصر والبصيرة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق