محمد ياسر منصور
الزيارة في عُرف أهل الحضارة على ضربين: اضطرارية واختيارية.
فالأولى: الزيارة لأجل الوليمة وليلة السهر والتهنئة والتعزية وزيارة الأدباء والرؤساء والأصدقاء أيام الأعياد والمواسم.
ومن الأدب أن تُظهر علامات الأسف والكدر في مقامات الترح، وتورد عبارات موافقة لحال المصاب لتسليه وتطيب خاطره بها، وعلامات الابتهاج في مقام الفرح، ولا تأتي بما يُتطيَّر (يتشاءم) منه مطلقاً.
والثانية: الزيارة لغير ذلك، وتستقبح جدّاً أن تكون وقت الراحة وتناول الأطعمة، وإذا كان لبعض الأسر أيام معينة في الأسبوع لمقابلة الزائرين فلا تُستحسن زيارتهم في غيرها. ورد الزيارة أمر واجب يلزم قضاؤه في أقرب فرصة.
وإذا عزمت على زيارة أحد فاجعل ملبسك مهذباً لائقاً به، ولدى وصولك إلى منزله نفّض حذاءيك واقرع الباب بلطف، فإن أجيب إلى قرعك فعرِّف بنفسك وانتظر الاذن في الدخول، وإن لم يجب إليه فأعده حتى تظن أنه قد سمع، وإن لم يفتح لك بعد فاعلم أن مزورك غائب أو عنده ما يمنعه من مقابلتك. وإذا أخبرك أحدٌ بعدم إمكان مقابلة من تقصده فلا تبد علامات التكدر من ذلك، بل انصرف بعد أن تطلب إليه أن يبلغه السلام أو تترك له بطاقتك تذكر فيها ما تريده مجملاً.
وتجنّب أخذ أطفالك معك خشية أن يصدر منهم قول أو فعل لا يليق أن يتصفوا به أمام الغير زيادةً عما يتكلفه المزور في إرضائهم وبذل الجهد في الاعتناء بهم، اللّهمّ إلا إذا كنت ذاهباً إلى من تشوق إليهم كخالتهم أو عمتهم فلا بأس حينئذٍ باستصحابهم.
ولا تزر أحداً والسماء ماطرة إلا في مركبة مقفلة حتى لا تدخل على مزورك مبلل الثياب، ملوث الحذاء.. فإن ذلك نقص فاحش.
وعند مثولك بحضرة من تزوره سلم عليه سلاماً كاملاً ثمّ حيي من تجده عنده مبتدئاً بمن في يمين المحل أو يمين صاحب البيت.
لا تتقدّم لمصافحة شخص أكبر منك سناً أو قدراً إلا إذا مد يده إليك أوّلاً، ولا تبادر إلى الجلوس حتى يشار إليك به. وبعد الاستقرار ومبادلة بعض ألفاظ الاستقبال أورد السبب الذي حملك على المجيئ.. موضحاً باختصار.
وإياك تسرح النظر في نواحي المحل. أو تحملق في الاثاث والمفروشات والصور، ولا في الموجودين، أو تمشي في صحن الدار أو مخادعها أو منافعها، أو تلمس شيئاً من الامتعة أو تقرأ ما تلقاه من الأوراق أو الكتب أو ما في يد الغير، أو تنظر إلى شيء إلا ما تعهد أنه معروض لذلك، وبالجملة فلا تك فضولياً في أي أمر كان.
وإذا قدم لعندك ضيف فاحترس من أن تبدي أمامه نكداً أو نفوراً من أمر ما، أو توبِّخ أحداً – ولو مذنباً – أو تنهر خادماً – ولو مقصراً – بل دع كل ذلك إلى حينه.
وإذا كنت ضيفاً فكن قليل الطلب، راضياً بكل ما يقدم لك، حذراً من أن يتوهم مضيفك أنك غير مرتاح لضيافته، ولا تُثقل عليه في شيء قل أو عظم، بل كن لديه كأنك لم تكن، وحافظ – ما استطعت – على عاداته وتقاليده، ولا تخالفه فيما يقترحه عليك، لأن جميع ما يفعله إنما يقصد به إرضاءك وتمام راحتك، اللّهمّ إلا إذا رأيت في بعض الأمور نفقةً كبيرة عليه فلا تكلفه به.
وعندما تلتقي بصديق قديم في حفلة منزلية لم تره منذ فترة طويلة، فلا تبادر بمحاصرته وغمره بفيض من الأسئلة: هل تذكر هذا أو ذاك؟ تاركاً في الوقت نفسه – ضيفاً آخر بلا حديث – فإذا كان إغراء الحديث عن الذكريات أقوى من أن يقاوم، فحاول – على الأقل – أن تشرك الضيف الآخر فيه.. شارحاً الأحداث والأماكن والأشخاص كلما ورد ذكرهم في سياق الحديث.
وبمناسبة الحديث عن الضيوف غير الأصدقاء، لا تحاول أن تلقي أسئلة شخصية أو ملاحظات خاصة، إلى أشخاص لست متأكداً من شخصياتهم، وذلك حتى تتجنب الكثير من الحرج.
وإذا أردت أن تُعّرف إنساناً بإنسان ابدأ بتقديم الأصغر سنّاً أو الأقل قدراً لمن هو أكبر سناً أو أعظم قدراً.
وإن صادفت أحداً عند باب البيت يريد زيارة من تقصده – وكان أكبر منك أو مساوياً لك – فمن الأدب أن تقدِّمه عليك في الدخول.
وإن حضر زائر آخر مدة زيارتك فامكث بعد حضوره هنيةً ثم إنصرف إلا إذا ألح عليك صاحب البيت أو الزائر القادم، فأقم بقدر ما تراه مناسباً.
ولا تطل الجلوس عند من يكون معرضاً عنك أو مشتغلاً بأمر آخر أو مستعداً للخروج من بيته أو يكرر النظر في ساعته، بل بادر بالانصراف من غير أن تريه أنك وقفت على شيء من أمره.
واعلم أن زيارة الناس في أماكن عملهم قبيحة تجر إليهم العطل والضرر وتعرضهم للوم رؤساهم إن كانوا مرؤوسين، فيلزمك أن تتجنبها ما أمكن.
وإذا دخلت على مريض فاسأله كيف أصبح أو أمسى، وسلِّه وصبِّره على احتمال الداء ورغبه في تعاطي الدواء بألفاظ رقيقة وعبارات رشيقة، وبشِّره بخفة مرضه وقرب شفائه كأنك رأيت ذلك من هيئته، وحدِّثه بمن كان في حالة أصعب مما هو فيها فبرئ، ولا تحدثه عمن كان مثله فمات، ولا تطل الإقامة إذا إذاً كان يأنس بك، وعند انصرافك ودعه ببشاشة وادع له بتعجيل الشفاء.
وإذا كنت في جلسة تجمعك ببعض الأشخاص أو الأصدقاء فلا تتحدث بصوت مرتفع ولا تحتكر الحديث، ولا تهمس إلى جارك، فإذا أردت أن تحدثه في أمر سري فاحتفظ بذلك الحديث إلى فرصة أخرى.
لا تتحدّث عن نفسك وعن أعمالك، وإذا أردت أن تكون محبوباً فحدِّث الناس عما يهمهم لا عما يهمك أنت.
واحذر من أن تتظرف على حساب الغير، أو تسخر من أحد الموجودين أو تجعله موضع الانتقاد. ولا تتحدث عن جمال نساء أخريات في وجود سيدات، كما لا تتحدث عن فخامة أثاث أحد أصدقائك أو رقة استقباله أو عظمة منزله، فمعنى ذلك أنك تحتقر من حولك، وثق أنهم يبادلونك هذا الاحتقار بأضعافه.
لا تسبب السآمة برواية قصة طويلة أو حديث لا نهاية له، بل اختصر في رواية قصصك وأحاديثك ولا تتحدث في الموضوعات التي لا تهم أحد الموجودين.
لا تظهر السآمة والضجر والقلق عندما يتحدث غيرك.
لا تطالع أثناء زيارتك للناس، وإذا كنت قد سئمت المجلس فاستأذن، وانسحب، ولا تنظر في ساعتك بين كل لحظة وأخرى.
وعند انتهاء الزيارة سلِّم على الحاضرين سلامك وقت مجيئك، ولدى وصولك إلى الباب سلِّم – ثانية – على مزورك ثمّ ثالثة قبل أن تتوارى عن نظره، ولا تكلفه أن يطيل توديعك، ولكن إن ألح فلا تبالغ أنت في معارضته.
ويلزم رب البيت أن يودع زواره إلى الباب الخارجي إكراماً لهم، ويريهم أنه متأسف لفراقهم، ويشكرهم على زيارتهم ويسألهم أن يكرروها في المستقبل.
وأخيراً.. نود أن نذكرك – عزيزنا القارئ – بأنّ الناس في ترددهم إلى البيوت فريقان:
فريق يدعى كثيراً إليها ولا يخلوا منهم مجلس، ويرتاح الداعون إلى مجالستهم. وفريقٌ إذا دعي مرة لم يدع مرة أخرى بعدها!.
فإذا كنت من الفئة الثانية، فاعلم أن فيك عيوباً ونقائص – والكمال لله – من السهل عليك تلافيها إذا طالعت نصائحنا وتوجيهاتنا الآنفة الذكر، وسلكت بموجبها.
وتقبل – سلفاً تهانينا ودعواتنا الحارة إليك... فهل تستجيب؟!
ارسال التعليق