• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آثار الحب الإلهي

العلامة الراحل السيد محمّدحسين فضل­ الله

آثار الحب الإلهي
  ◄من ثمرات حبّ الله للمؤمن، من خلال حبّ المؤمن له، أنّه يرزقه الهداية الروحية والغنى السلوكيّ والانفتاح على تحويل ذاته إلى ذات غنيّة بالخير.

لقد وردت النصوص عن رسول الله (ص) وعن الإمام عليّ (ع)، حول ما يجعل الله يجبّ عبده، وذلك في أكثر من مضمون ثقافي روحي، توحي مفرداته بالوثوق بصحته؛ لانسجامه مع الخطوط العامة في الكتاب والسنّة.

 

الإكثار من ذكر الله:

من ذلك ما روي عن رسول الله (ص)، بما جاءت به الرواية عن موسى (ع) مناجياً ربه: "يا ربّ، وددتُ أن أعلم من تحب من عبادك فأحبّه. فقال سبحانه: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري، فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني، فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضته".

ونستوحي من هذه الرواية، قيمة ذكر الله لدى الإنسان، في دلالته على امتلاء ذاته بالله، بحيث يأنس بذكره، في روحيّته المنفتحة على علاقته به ومحبته له، فلا يغيب عن عقله وقلبه، وعمق وعيه.

أمّا إذن الله للمؤمن في ذلك فهو توفيقه له عندما يطّلع سبحانه على إيمانه، ويرى منه صدق العبودية له والعشق لذاته المقدّسة، بحيث ينطلق الذكر من قاعدة الاختيار الذي يلتقي باللطف الإلهي. أمّا الإنسان الذي لا يذكر الله، لغفلته عن مواقع عظمته، وامتدادات نعمه، وفيوضات رحمته، وقدسية ربوبيته، وانفتاح عبوديته له، فإنّه يواجه في داخل كيانه ظلمات الحجب الكثيفة عن ذكر ربّه، ويبتعد عن القرب إليه، ويتجلى ذلك في سقوط روحي وعقلي وشعوري عن عمق الحب الإلهي، ما يجعل علاقته بالله في غربة عن معنى الإيمان، فيستحق البغض من الله.

 

حُسن العبادة:

وفي الحديث عن الإمام عليّ (ع): "إذا أحبّ الله عبداً ألهمه حُسن العبادة"؛ لأنّ محبّة الله له، لا تنطلق إلا من خلال علمه تعالى بما يختزنه هذا الإنسان من صفاء الإيمان وعمق العقيدة وروحية الذات؛ الأمر الذي يفيض عليه من فيوضات المعرفة به، والوعي لجوانب العظمة الربوبية في ذاته المقدسة، فتنفتح له كلّ آفاق العبادة من خلال معنى العبودية لربّه، فتتحرك العبادة إيماناً في عقله، وروحاً في قلبه، وحركةً في جسده، في ركوعه وسجوده وابتهاله ودعائه ومناجاته، والعمل بكلِّ ما يؤدي إلى الحصول على مواقع القرب منه. وهذا هو الذي توحي به كلمة الإلهام لحسن العبادة.

 

الصدق والأمانة:

وفي حديث آخر عنه: "إذا أحبّ الله عبداً ألهمه الصدق"، هذه القيمة الأخلاقية هي التي أرادها الله لأنبيائه والصالحين من عباده، لأنّها تربط الناس بالحقيقة من دون زيادة أو نقصان، وتؤكّد سلامة موقف الإنسان في صدق النية والحركة والعلاقة، بحيث لا يلتقي بالكذب في القول والفعل، مما يدمر التصوّر وحركة الواقع. ولذلك فإنّ محبة الله للإنسان تجعله في رزقٍ قيميّ أخلاقي وحركيّ ينفتح فيه على الله في صدق العبودية، والالتزام بكلّ ما يعبّر عنه في شهادة الإيمان، وفي عهده لله وللناس.

وفي حديثٍ آخر عنه (ع): "إذا أحبّ الله عبداً جبّب إليه الأمانة"؛ لأنها الصفة الحسنة التي يريدها الله من عباده، ويحبّ أن تتمثّل فيهم، باعتبارها تنبع من عمق الصدق في نفس الإنسان، سواء كانت الأمانة أمانة النفس أو المال أو العرض أو أيّة مسؤولية يتحمّلها، فيكون توفيقه إليها كرامة من الله له مما يكرم به سبحانه عباده في عملية الالتزام بالأعمال التي يحبُّها من خلقه.

 

السكينة والحلم:

وفي رواية أخرى عنه: "إذا أحب الله عبداً زيّنه بالسكينة والحلم"، لأنّ الله ينزل سكينته على المؤمنين كما أنزلها على رسوله، فيحصلون من خلال ذلك على النفس المطمئنة في الهدوء النفسي الذي يوحي بالطمأنينة. وهكذا يريد الله لأحبائه أن يتحلّوا بالحلم وسعة الصدر وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إليهم، لأنّ الله حليم يجب الحلماء ويوفّقهم للأخذ بأسبابه. وقد قال تعالى في محكم كتابه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-134).

 

الرشد والتوفيق للطاعة:

وفي حديث آخر عنه: "إذا أحبّ الله عبداً ألهمه رشده ووفّقه لطاعته"، لأنّ الإنسان الرشيد يواجه الأمور، في صغائرها وكبائرها، بالرشد الفكري الذي يعرف كيف يدرس الأمور ليتعرّف صالحها من فاسدها، ومفيدها من ضارّها، وينطلق في الحياة من خلال الاتِّزان العقلي، ويتحرّك فيها في خطّ الاستقامة الحركية، ويبتعد عن الغيّ في أموره كلّها، وبذلك يتحرك نحو الطاعة لله باعتبارها السبيل الرشيد للحصول على سلامة المصير في الآخرة. ومن أحبّه الله تعالى، فإنّه يفيض نعمته عليه بكلّ ذلك.

 

الاتّعاظ بالعبر:

وفي حديث آخر عنه: "إذا أحبّ الله عبداً وعظه بالعبر"، لأنّ الله يحب للإنسان أن يعتبر بما مضى لما بقي، وذلك من خلال دراسة الأمور في إيحاءاتها العملية ما يستفيده فيما يستقبل من أوضاعه وأموره، فلا يغفل دروس التاريخ لنفسه وللآخرين، ولا يهمل التخطيط للمستقبل من خلال ما واجهه وفي تجاربه وتجارب الآخرين من العبر الموحية بكلِّ خير، فينفتح عمّا يرى في صلاح أمره، ويبتعد عن كلِّ ما يؤدّي إلى فساد حياته. وهذا مما يحبه الله للمؤمن من عباده، لأنّ ذلك هو أقرب الوسائل للنجاح والفلاح.

 

بغض المال وقصر الأمل:

وفي حديث آخر عنه: "إذا أحبّ الله عبداً، بغّض إليه المال، وقصّر منه الآمال"، ولعلّ المقصود هو عدم الاستغراق في حبّ المال، بحيث يكون كلّ شيء في حياته، حتى إنّه يتنازل بسبب ذلك عن بعض مسؤولياته الشرعية إذا حالت بينه وبين الحصول على المال. وفي ضوء ذلك، يتولّد في نفسه، من خلال هذا الحبّ الإلهي الذي يبادل فيه المؤمن ربّه حباً بحب، فيبغض المال الذي يبتعد به عن الله، ويجلب له سخطه ويعرضه لعقوبته، ويفقد معه حبّه.

إنّ الإنسان إذا أحبّ الله في عقله وقلبه، وانفتح على سرّ عظمته المطلقة، فإنّه يرتبط به ويذوب في طاعته، فيكون رضوان الله فوق رضا نفسه ورضا الناس من حوله، وينظر إلى الدنيا على أنّها مزرعة الآخرة، وأنها الساحة التي يتحرك فيها للقيام بمسؤولياته أمام الله، ليحصل على القرب منه، وليفوز بالثواب العظيم الذي يمنحه الله للمتقين من عباده الذين وعدهم بالجنة وبإدخالهم في مواقع رحمته.

وبذلك لا يخضع للدنيا في شهواتنا ولذاتها في مقابل شهوات الجنة ولذاتها، التي ورد أنّ فيها "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 17). وهذا ما جاء به الحديث عن رسول الله (ص): "حبّ الدنيا وحبّ الله لا يجتمعان في قلبٍ أبداً". وعن الإمام عليّ (ع): "كيف يدّعي حبّ الله من سكن قلبه حبّ الدنيا"، وجاء في حديث آخر عنه: "كما أنّ الشمس والليل لا يجتمعان، كذلك حبّ الله وحب الدنيا لا يجتمعان".

ومن الواضح أنّ المراد من إخراج حبّ الدنيا من قلب المؤمن، هو ما تشتمل عليه من المحرّمات التي نهى الله عنها، والاستغراق في شهواتها وأطماعها غير الشرعية، وليس المراد ترك الدنيا في حاجاتها الطبيعية للإنسان، مما أراد الله له أن يأخذ به في استمرار حياته واستقرارها. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع)، أنّ شخصاً سأله، فقال: إنّا لنحبّ الدنيا ونرغب أن نؤتاها، فقال له الإمام (ع): "تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر"، فقال الإمام (ع): "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة". ولعلّ ذلك ما يوحيه قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/77).

أما تقصير الأمل، فإنّه يجعل الإنسان في حالة تفكير في الموت من جهة محدودية أجله، فلا يمتد بالأمل بما يؤدي به إلى الغفلة عن الله، وبالتالي عن الاستعداد للقائه في الآخرة، وهذا ما جاء به الحديث عن عليّ (ع): "ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خصلتان؛ اتّباع الهوى وطول الأمل، أما اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".

ومن الواضح أنّ نسيان الآخرة يؤدي بالإنسان إلى إهمال فروض الطاعة لله، والتجرؤ على معصيته، ونسيان موقعه منه، وفي ذلك كلّه الخسارة لمصيره عند الله، بينما ينفتح قصر الأمل على الإحساس الدقيق بالمسؤولية والاستعداد للآخرة ليلقى الله عزّ وجلّ في يوم القيامة وهو عنه راضٍ، فتفيض عليه الرحمة الإلهية إفاضة الوعي الإيماني الذي يبقى فيه قريباً من مواقع القرب إلى الله، ومن فيوضات محبته له.

 

القلب السليم والخُلُق القويم:

وفي حديث آخر عن عليّ (ع): "إذا أحبّ الله عبداً رزقه قلباً سليماً وخُلُقاً قويماً"، فإنّ الله الذي يقلّب القلوب بإرادته، ويفتحها بلطفه، إذا رأى من عبده الخير في ذاته، والحقّ في حركته، هداه إلى الصراط المستقيم الذي يرتفع بمشاعره وأحاسيسه إلى الحب للناس في خط الهداية إليهم، والاهتمام بأمورهم، فلا ينعقد على البغض والحقد والعداوة، ولا يخفق بالشرّ للآخرين، ولا يدخل ذلك في فكره. وهذا ما أراده الله للإنسان الذي يقف بين يديه يوم القيامة كما في قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89)، فإذا اطّلع الله على سلامة قلب المؤمن، فإنّه يزيده سلامةً وانفتاحاً، وهكذا يفيض الله عليه بالطاقة الروحية والألطاف الإلهية والهداية العقلية والاستقامة العملية، ما يحقق له الانسجام في الخط الأخلاقي الذي ينطلق من أخلاقيته في نفسه ومع ربّه ومع الناس كافة، ومع الحياة كلّها، لأنّ حبّه لله الذي يلتقي مع حب الله له، هو الذي يشرق في ذاته، فيبتعد عن كلِّ ظلمة تحجب عنه الحقّ والخير والإيمان.

وهكذا نجد من ثمرات حب الله للمؤمن، من خلال حبّ المؤمن له، أنّه يرزقه الهداية الروحية والغنى السلوكي والانفتاح على تحويل ذاته إلى ذات غنية بالخير، سائرة في طريق الحقّ، عاملة بالصلاح والإصلاح، وهذا هو الرزق الروحي المعنوي الذي يلتقي – في رحمة الله – بالرزق المادي، لأنّ الله هو الذي يفيض على عباده بكلِّ نعم الوجود في بُعديه الروحي والمادي.

وهكذا تتفاعل المسألة بين العبد المؤمن وربه، حباً من العبد باتّباع أوامر الله ونواهيه وامتداداً في طاعته، وحباً من الله بالألطاف الإلهية التي تحقق للمؤمن كلّ خير وتخلّصه من كلِّ شرّ، وتقوده إلى سلامة الدارين.

 

منزلة المؤمن عند الله تعالى:

جاء عن الإمام عليّ (ع): "من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب، كذلك تكون منزلته عند الله تبارك وتعالى". وفي حديث آخر عنه: "من أحبّ أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ كلَّ من خُيِّر له أمران: أمر الدنيا وأمر الآخرة، فاختار أمر الآخرة على الدنيا، فذلك الذي يحب الله، ومن اختار أمر الدنيا، فذلك الذي لا منزلة لله عنده".

إنّ القضية التي يعالجها الإمام عليّ (ع) هي أنّ البرهان على منزلة الله عند الإنسان يأخذ بالحسبان رضوان الله، في اختياره لأي عمل من أعماله، وأي قولٍ من أقواله، وأي موقف من مواقفه، وأيّة علاقة من علاقاته، فإذا كان اختياره في أمر ما يلتقي مع رضا الله، حتى لو كان على خلاف مزاجه أو مصلحته أو على خلاف رضا الناس القريبين منه من حوله، بحيث كان أمر الله قبل أمره، كان ذلك دليلاً على منزلة الله عنده بالدرجة العليا التي لا يرى فيها غير الله في نفسه، أما إذا كان اختياره تابعاً لرضا الناس أو لشهوته أو لمصالح دنياه التي لا تلتقي مع خط الآخرة، بعيداً عن رضا الله في ذلك، كان ذلك دليلاً على أنّ أمر الله لا يرقى إلى موقع المحبة عنده، أو إلى سر العبودية في ذاته.

وفي ضوء ذلك، فإنّ الله يمنح العبد منزلته في درجته لديه، لأنّ الله يرفع عباده إليه بقدر ما يطلع على ما في عقولهم وقلوبهم وحياتهم من محبةٍ له، وطاعةٍ له في حركتهم العامة والخاصة في الواقع. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31)، فيما توحيه من أنّ محبة الله للإنسان تابعة لمحبة الإنسان لله، في عملية مبادلة حبٍ بحب، ودلالةٍ بدلالة. وهذا ما عبّر عنه الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: "من أراد أن يعرف كيف منزلته عند الله، فليعرف كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزل العبد مثل ما ينزل العبد لله من نفسه". فعلاقة الله بعباده ليست علاقة ذاتية، ولاسيّما أنّ العباد متساوون عند الله في خلقه.

ولذلك فإنّ أي عبد يبلغ المنزلة العليا عند الله، بقدر إخلاصه له وتقواه في طاعته، وهذا ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وهو ما يوحي بالمنزلة الكبرى للإنسان عنده، من خلال خطوط التقوى البالغة أعلى الدرجات في الطاعة. وقد جاء عن رسول الله (ص) قال: "قال الله: ما تحبّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وإنّه ليتحبّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته". إنّ هذا الحديث يحوّل الإنسان المؤمن التقي إلى ربّاني في كلِّ كيانه، يتحرك بلطف الله ورحمته ورضوانه، ليشمله الله بكلِّ مواقع الحبّ عنده.

 

تحبيب الله إلى خلقه:

إنّ مسؤولية الإنسان المؤمن في محبّته لله، أن يعمل على أن يحبّب الله إلى عباده، وذلك بالأساليب المتنوعة التي تثقف الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، في مواقع عظمته وامتداد نعمه، بحيث يشعر العباد بأنّ الله سبحانه هو الذي تحبّب إليهم بخلقه ورعايته ورحمته ولطفه، حتى يحبوه حبّ الإنسان لربّه الذي هو وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة، والكافي من كلِّ شيء، والرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته غضبه، وأفاض كلّ ألطافه عليهم، ليجتمع لهم الإيمان العقيدي بتوحيده، والحب القلبي لذاته القدسية، في آفاق ربوبيته المطلقة التي لا حدّ لها في زمان ولا في مكان.

وهذا ما جاء الحديث به عن رسول الله (ص): "قال الله عزّ وجلّ لداود (ع): أحبّني وحبِّبني إلى خلقي، قال: يا ربّ: نعم، أنا أحبّك، فكيف أحبِّبُك إلى خلقك؟ قال: اذكر أياديَّ عندهم، فإنّك إذا ذكرت لهم ذلك أحبّوني". وفي الحديث عن الإمام محمّد الباقر (ع): "أوحى الله تعالى إلى موسى (ع): أحبّني وحبّبني إلى خلقي، قال: موسى (ع): يا ربّ، إنّك لتعلم أنّه ليس أحدٌ أحبّ إليّ منك، فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي، فإنّهم لا يذكرون مني إلا خيراً".

إنّ هذا هو أحد أساليب الدعوة إلى الله في مسألة انفتاح الناس عليه وارتباطهم به ومحبتهم له، فإنّ معرفة الناس بنعم الله عليهم في كلِّ أمورهم، في حياتهم العامة والخاصة، يجعلهم يشعرون بالارتباط الوثيق به في وجودهم، ويتعرفون أنّه يجسِّد في أياديه كلّ شيء في الواقع الذي يعيشونه، منذ بداية خلقهم إلى نهاية حياتهم، فإنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها، فكيف إذا كان المحسن في موقع الله في رعايته لعباده؟!

وربّما يبرز هنا سؤال: ما هي حاجة الله إلى محبة خلقه له، وهو الغني المطلق عن عباده بذاته، وهم الفقراء إليه؟

والجواب، أنّ القضية لا تتصل بحاجة الله، بل تتصل بحاجة الخلق إلى ربهم، تماماً كما هي المسألة في معرفتهم به التي حثّهم عليها، لأنّهم إذا أحبوا الله، أطاعوه وانفتحوا عليه، وإذا عرفوه، خضعوا له وعبدوه، وهذا مما يرجع بالخير عليهم في صلاح أمرهم، من خلال المصالح التي تحصل لهم بالطاعة، والمفاسد التي يبتعدون عنها بالبعد عن المعصية.

 

الحبّ والبغض في الله:

ومن مظاهر محبة الإنسان لله، أن يكون الله في سرّ الإيمان به هو الأساس في مسألة الحب للناس والبغض لهم، بحيث تكون مشاعره تابعةً لعلاقة الآخرين بالله سلباً وإيجاباً، فيكون الحب للمؤمن من خلال إيمانه بالله وعلاقته به وولايته له، ويكون البغض لأعداء الله من خلال عداوتهم لله وسخط الله عليهم. وفي هذا دلالة على أنّ الله هو الذي يحكم ارتباطات الإنسان بعيداً عن النوازع الذاتية والعناصر الشخصية، فإذا عرف الله من عبده أنّه يحب الآخرين من خلال قربهم إليه، ويبغضهم من خلال بعدهم عنه، عرف منه صدق الإيمان به والمحبة له، وبالتالي يكون مجرداً من العوامل الذاتية التي تلتقي بمصالحه الخاصة وشهواته الجامحة.

وهذا ما ورد عن رسول الله (ص): "أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله". وفي حديث آخر عنه: "ما تحابّ اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدّهما حباً لصاحبه". وفي حديث آخر عنه: "حقّت محبّتي للمتحابّين، فيَّ، وحقّقت محبتي للمتواصلين فيَّ". وتتعاظم المسألة في حديث آخر عنه (ص): "الحب في الله فريضة، والبغض في الله فريضة"، حيث اعتبرها من الفرائض النفسية التي لابدّ للمؤمن من أن يخضع لها في عقله وشعوره، لأنّها هي التي تدل على عمق الإيمان بالله والمحبة له، بحيث لا ينفتح على شيء أو أي شخص إلا من خلال علاقته بالله.

وجاء عن الإمام محمّد الباقر (ع): "إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ". وفي هذا دلالة على أنّ التوافق في الحب والبغض، هو الذي يجمع الناس في يوم القيامة، لما يعبر عنه الحبّ والبغض من الالتقاء في الموقف الذي يتحول إلى الالتقاء في المصير.

وجاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) في الجانب السلبي من المسألة: قال: "كلّ من لم يحبّ على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له"، لأنّ هذه السلبية في النظرة إلى التزامات الآخرين سلباً أو إيجاباً، تدل على سلبية التزامه بدينه. وفي الحديث عن رسول الله (ص) لبعض أصحابه: "يا عبد الله، أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالِ في الله، وعادِ في الله، فإنّه لا تُنال ولاية الله إلا بذلك، ولا يجد رجلٌ طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون".

وفي حديث عن الإمام علي (ع): "أحبب في الله من يجاهدك على صلاح دين، ويكسبنّك حسن يقين". فإنّ هذا الإنسان هو الذي يرتبط بك من أجل الله ليصلح لك دينك، وليقوّي يقينك، ليقرِّبك إلى الله، ما يفرض عليك أن تحبه في الله ولله، لأنّه يسير بك في الطريق إلى الله.

وفي نهاية المطاف، نلتقي بحديث للإمام زين العابدين (ع) لما قال له رجل: "إني لأحبّك في الله حباً شديداً، فنكّس الإمام (ع) رأسه ثمّ قال: اللّهمّ إني أعوذ بك أن أُحبّ فيك وأنت لي مبغض، ثمّ قال له: أحبّك للذي تحبني فيه".►

 

المصدر: كتاب الندوة/ 18

ارسال التعليق

Top