• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بناء الأهداف

د. ياسر عبدالكريم بكار

بناء الأهداف

◄يعتبر الكتّاب في أدبيات النجاح أنّ عملية وضع الأهداف من الأركان الهامة في عملية التغيير. فمن يمتلك الرغبة والإرادة للتغيير دون أن يضع أهدافاً محددة وواضحة، فسوف – على الأغلب – يصرف جهده بشكل عشوائي وغير فعّال ومن ثمّ يفقد الرغبة الدافعة للتغيير.

تقوم فكرة وضع الأهداف على مبدأ أنّ الأشياء تصنع مرتين، الأولى في أذهاننا عبر تكوين صورة واضحة التفاصيل لكلِّ ما نود الوصول إليه، وأي شكل ستأخذه حياتنا بعد سنة أو خمس أو عشر سنوات. والثانية على أرض الواقع عبر العمل الجاد الموجّه.. تماماً كما يفعل المهندس المعماري الذي يضع مخططاً للبيت الذي يريد بناءه. يحوي هذا المخطط كلّ التفاصيل الدقيقة لكلِّ ركن من أركان البيت قبل أن يضرب مسماراً واحداً.

 

لماذا يجب أن نضع أهدافاً؟

سأذكر مجموعة من الأسباب التي تجعل وضع الأهداف ذا أهمية خاصة:

أوّلاً: الأهداف إذا رسمت بشكل جيد فستكون أكبر مصدر طاقة محفز للإنسان. الأهداف تدفعنا للعمل، وتجعلنا نواصل الليل بالنهار عملاً واجتهاداً. وقد ذكر أنتوني روبنز أنّ جماعةً من الناس سألوه: لماذا لم نستطع أن نحقق ما نرجوه؟ فقال لهم: (لستم كسالى ولكن لديكم أهدافاً عاجزة).. دعوني أكرر:

لستم كسالى ولكنّ لديكم أهدافاً عاجزة

ثانياً: الأهداف هي السبيل الأمثل لزيادة إنتاجية المرء وإنجازه.. ففي دراسة أجريت في جامعة ييل عام 1953 حيث سُئل الطلاب عمن له أهداف مستقبلية مكتوبة. فكانت النسبة ما يقارب الثلاثة بالمائة. والبقية ليس لديهم أهداف واضحة. تابع الباحثون هؤلاء الطلاب على مدار عشرين سنة فوجدوا – ممن استطاعوا الوصول إليه – أنّ إنجاز أولئك الثلاثة بالمائة كان مساوياً لما أنجزه بقية السبعة والتسعين بالمائة من الطلاب.

ثالثاً: الأهداف توضح الرؤية، وتدل الإنسان على وجهة الطريق التي يجب أن يسلكه، وتكون كمعيار يحتكم إليه الواحد منّا قبل إقدامه على إنجاز أي مشروع. فمثلاً إذا دُعيت إلى عمل معين فستسأل نفسك: هل هذا العمر يسير مع أهدافي التي رسمتها وبالتالي سيحقق ما أصبو إليه، أم أنّه سيشغلني دون عظيم فائدة؟.

وقد شبه أنتوني روبنز من يضع له أهدافاً ومن لا يضع، بالطفل الذي يلعب بالألعاب التركيبية. وتعلمون أنّ الطفل هنا يرى الصورة الكبيرة ويركب القطع الصغيرة جنباً إلى جنب حسب الصورة. الشخص الذي لا يضع لحياته أهدافاً كمن يركب القطع الصغيرة دون أن يرى الصورة الأصلية. وتخيل كم مهمته صعبة بل مستحيلة!.

رابعاً: الأهداف تركّز الجهود وتمنع التشتت. وكما قابلت من الشباب الذين لديهم الرغبة الصادقة والقدرات العقلية الجيدة لكنهم مشتتو الذهن والتركيز، فيوماً يقرأ هنا ويوماً هناك، ويصرف جهده في عمل ما ثمّ ينصرف لآخر، وهكذا يمضي العمر دون إنجاز حقيقي يرتقي بمستوى الفرد والأُمّة.

أستطيع أن أشبه مساعدة الأهداف على توجيه الوعي وتركيزه بشخص أشترى سيارة من نوع معيّن.. في حال سيبدأ هذا الشخص بملاحظة السيارات التي تشبه سيارته الجديدة.. وقد يتفاجأ بالكم الكبير من السيارات التي تشبه نوع سيارته الجديدة وأنّه لم يلاحظ ذلك من قبل. وعلى ذات النحو، من يضع هدفاً سوف يستولي على انتباهه واهتمامه أينما ذهب. ولو تتذكر صاحبنا الذي عزم على أن يصبح مرجعاً في التاريخ.. هذا الشاب سوف ينشد انتباهه لكلِّ فعالية لها علاقة بالتاريخ، مثل محاضرة أو برنامج حواري أكثر من أي شخص آخر، مما سيوحّد جهده في ذلك المسار.

 

خصائص الأهداف:

الأهداف المحفزة لها خصائص معينة وسمات سأستعرضها فيما يلي:

أوّلاً: الأهداف المحفزة لابدّ أن تتوافق مع سلم أولوياتك، وتعمل على حفظ وإبراز قيمك الشخصية.. لأنّ هذا التوافق هو الذي يعطيك القوة والدافع للمثابرة في تحقيق التغيير. ولهذا عندما تعمل على بناء أهدافك لابدّ أن تسأل نفسك سؤالاً في غاية الأهمية: ما هو الشيء الذي يستحق أن تصرف فيه الساعات والأيام، وتبذل من أجله الجهود؟ ما هي الأشياء التي تعطيها أكبر وأهم قيمة في حياتك؟ ماذا تريد بالضبط؟ ما هي الفكرة أو العمل الذي تجد نفسك مستعداً لأن تبذل من أجله الغالي والرخيص؟

عندما تمتلك بصيرة بما هو مهم وأساسي في حياتك (وهذا ما نسميه سلّم القيم)، ومن ثم تبدأ بالتغيير وفق هذه الأهمية فاعلم أنك نفثت في مشروعك هذا روحاً قويةً سوف لن تنطفئ. وحتى إذا خبا نورها فسيكون من السهولة إحياؤها من جديد. وحتى ما ستتعرض له من فشل وعقبات في طريقك فسيسهل عليك التغلب عليه أو تقبله.

لابدّ أن تكون هذه الأولويات حاضرة في ذهنك طوال الوقت. والواقع أنّه من اللحظات القاسية على الإنسان، والتي قد تمر عليه بعد أمد طويل من العمل والجهد هو إحساسه بأنّ ما أشغل به نفسه كان قليل الأهمية، وأنّه كان متوهماً عندما حمّل هذا العمل أهمية أكثر مما يحتمل.

ثانياً: لابدّ أن يكون التحكم في أهدافك والوصول إليها في يديك وتحت سيطرتك..

 

الهدف الذي لا يتحقق إلا بوجود ومساهمة الآخرين هو أمنية وليس هدفاً

 

كأنّ تقول: أريد أن أبدأ مشروعاً تجارياً عندما أجد من يمدّني بالمال. هذا الهدف غير عملي وغير محفز. لكن أن تقول سأسعى من أجل إيجاد ممول لمشروعي التجاري فهذا هدف منطقي ومقبول. الفرق طفيف في الصياغة لكنه كبير شعورياً وواقعاً.

ثالثاً: لابدّ أن يكون الهدف مما يسهل تجزئته إلى أجزاء صغيرة يمكن قياسها. فالمحافظة على الصحة الشخصية واللياقة البدنية مثلاً هدف كبير يمكن تجزئته إلى ممارسة رياضة المشي لمدة عشرين دقيقة كلّ يوم، واتباع حمية معينة وهكذا..

 

الهدف الذي يصعب تحديده أو قياسَ التقدم فيه يصعب الوصول إليه

 

والآن جاء وقت الكتابة..

هيِّئ نفسك.. خذ ورقة وقلم.. اجلس في مكان هادئ. اسأل نفسك هذا السؤال: إذا كنت تعرف أنك لن تفشل أبداً، فما الذي تود أن تكونه أو تفعله في مستقبل أيامك؟ ما هي الوضعية المثالية التي تتمنى أن تكون عليها بعد خمس أو عشر أو خمس عشرة سنة؟.

ابدأ بالكتابة، واجعل قلمك يتحرك مدة لا تقل عن عشرين دقيقة.. اكتب في كلِّ مجالات حياتك من الجانب العبادي إلى الأسري والمهني والاجتماعي والمالي إلى غير ذلك.. ارسم الصورة التي تود أن تكون عليها أنت كشخص، صفاتك، مهاراتك، نجاحاتك، حياتك في المستقبل، بكلِّ ملامحها وتفاصيلها. لا تفكر الآن في كيفية تحقيق ذلك، وهل هذا منطقي أم لا، فقط اكتب بلا حدود ولا قيود، ولا تتوانى عن ذكر أدق التفاصيل.

واحذر من الخوف من الفشل أو قصور الأهداف كما قال أحدهم:

 

ضع هدفاً عملاقاً لأنك في الأغلب لن تصل إلى أكثر مما وضعت

 

تذكر أنك ترسم مسار حياتك وهذا يعني أنك لابد أن تعطي هذه الخطوة حقها من الوقت والجهد والتركيز والمراجعة.

عندما تكتمل الصورة العامة يجب أن تنتقل إلى خطوة تالية وهي..

 

تجزئة هذه الأهداف الكبيرة إلى أهداف صغيرة:

فما الذي ستنجزه خلال هذه السنة، الستة أشهر القادمة، الشهر الحالي، هذا الأسبوع، وكيف ستبدأ من اليوم. الأهداف قصيرة الأمد سوف تمدك عند إنجازها بطاقة هائلة لإكمال المشوار.. وكما قيل: (النجاح يصنع النجاح) فالنجاح في الأهداف الصغيرة سوف يقودك إلى النجاح في تحقيق الأهداف الكبيرة.

 

هل تتغير الأهداف؟

أعتقد أنّ أهدافنا عرضة للتغيير فعندما نبدأ في التنفيذ تتكشف لنا قضايا أكثر أهمية أو نميل إليها أكثر من غيرها، أو نجد أنّ مهاراتنا تتجلى في موضوع أكثر من الآخر وهكذا.. ذُكِر في برنامج حواري في إحدى القنوات الفضائية عن سيرة الدكتور عبدالوهاب المسيري.. وكيف أنّه كان مولعاً بالنقد الأأدبي ومتحمساً له في بداية حياته المهنية، إلى أن تصادف أن يُكلف بعمل له علاقة بالصهيونية. وما إن بدأ يتعامل مع هذا الموضوع حتى أحس أنّه وجد ضالته وميوله للقراءة والبحث في قضايا الصهيونية. جدد هذا العالم أهدافه من جديد، وباشر العمل، وبذل الجهد إلى أن أضحى واحداً من الرموز الذين يشار إليهم بالبنان في ما يخص بالمعرفة عن العدو الصهيوني. ونحن في الواقع نحتاج إلى هذه المرونة في رسم أهدافنا وتغييرها عند اللزوم.. ولكني أظن أنّ من يهتم بما ذكرته في الخطوة الثانية أي بتحديد سلّم قيمِه والأسباب التي جعلت من أهدافه أولويةً في حياته فسوف يقلل من هذه التغييرات التي تعرقل بلا شك مسيرة المرء نحو التغيير.

قبل أن نخطو نحو الفعل وما يلزمه دعونا نتعرف على قوة المعتقدات في نجاح التغيير وتذكر.. ►

 

المصدر: كتاب القرار في يديك

ارسال التعليق

Top