وقد نجحت اليابان – على سبيل المثال – في تحقيق هذا الهدف، بينما لا يزال هذا الأمل أمنية تتداولها أقلامنا في الفترة الماضية دون أن نناقش هل من الممكن أن يحقق العرب أيضاً نفس هذا الهدف النبيل، ولكن من الطريف أننا في العالم العربي قد عرفنا هذا المفهوم من قبل، بل وأوجدنا له مصطلحاً "جميلاً"، وإن كان في نفس الوقت "مضللاً"، وهو مصطلح "تعليم الكبار"، وهو ما يعني أنّ التعليم موجّه إلى طائفة تعلّمت من قبل ووصلت إلى مرحلة متقدمة من العمر والهيكل الاجتماعي أيضاً، ولا يخفى المدلول اللفظي لكلمة الكبار، وعلى الرغم من أنّ المعنى الذي أوضحته لتوي ظاهر جدّاً، ولا يحتمل اللبس، إلا أنّه في الغالب غير واضح بهذه الصورة في أذهان كثير من القرّاء، ويظن بعضهم أن تعليم الكبار هو نفسه "محو الأميّة" ولا أنكر أنّ هذا المفهوم الشائع هو المسيطر تماماً على الفهم الاجتماعي والثقافي لتعبير تعليم الكبار، مع أنّ هذا الفهم بعيد عن الصواب... ولكن ماذا نفعل؟ قدّر الله وما شاء الله فعل، وفي الهيكل الإداري والتنظيمي للتلفزيون العربي – على سبيل المثال – إدارة كبرى لتعليم الكبار... وهذه الإدارة هي المسؤولة عن برامج التثقيف الصحي على سبيل المثال... وقل مثل هذا في هياكل وزارات التربية في عالمنا العربي، وقد حدثت مفارقة عجيبة، وقد كانت العجب في هذه المفارقة أنها أنتجت اقتراناً بين "محو الأميّة" وبين "تعليم الكبار"، ولم يكن الدافع إلى هذا فيما أعتقد، إلا أن كلا المفهومين يرتبط بنوع غير تقليدي من التعليم بعيد من النظامية البيروقراطية، والشهادات والامتحانات المحددة بأوائل الصيف، والعام الدراسي، والمناهج المقررة، والحصص، وأصبحت هناك – على سبيل المثال – إدارة كبيرة في وزارات التربية تحمل اسم "محو الأمية وتعليم الكبار"، وهكذا تم دمج الهدفين في إدارة واحدة، وشأن ما يحدث في كل التطوّرات الحضارية في مجتمع بيروقراطي أصبحت الكلمتان وكأنهما مترادفتان، وهكذا ضاع مفهوم التعلّم مدى الحياة الذي كان اسمه البيروقراطي "تعليم الكبار" في بحر "محو الأمية" التي تتوجه برامجها إلى محو أمية الكبار، بدلاً من أن يكون معنى مسمى الإدارة التي تجمع اختصاصين أنه محو الأمية عند الكبار والصغار وتعليم الكبار الذين كانوا متعلمين أصلاً، أصبح المسمى متوجّهاً بحكم اللفط إلى معنى آخر تماماً وهو محو أمية الكبار فقط، وهكذا تحقق أيضاً الإسراع في زيادة معدّلات التسرّب بين تلاميذ المدارس لأنّ إدارة محو الأمية ظنت نفسها مسؤولة عن محو أمية الكبار فقط، وهكذا أيضاً تحقق الإهمال المطلق لمفهوم تعليم الكبار لأنّ الإدارة الكبرى التي أنيط بها هذا الهدف لم تدرك أن هذا هدف في حد ذاته، وظنت بحكم الآليات البيروقراطية أن تعليم الكبار هو محو أمية الكبار!!
وكان هذا نموذجاً "بديعاً" و"معبّراً" لهذا الفشل المزدوج حين نطلب من إدارة واحدة تحقيق وظيفتين، فقد يكون المدير الأوّل واعياً لحدود الوظيفتين، ولكن ربما جاء المدير الثاني أو الثالث على أقصى تقدير وهو غير واع لوظيفة الإدارة لأنّه جاء بحكم الترقيات الروتينية المتوازنة، وكان لابدّ له أن يحصل على درجة مدير عام، ولم تكن هناك إدارة خالية إلا هذه! وجاء وهو ومن بعده ومضوا دون أن يعرفوا المقصود بتعليم الكبار. هل طالت هذه المقدمة بعض الشيء؟ ربما... وإذن فمن حق القارئ أن أسرع الآن وأعرض عليه التصوّرات الكفيلة بتحقيق النجاح في سياسات التعليم مدى الحياة، بعبارة أخرى، كيف يمكن للدولة أو للنخبة فيها أن يقنعوا السواد الأعظم من مواطنيها بأهمية وضرورة استمرارهم في التعلم مدى الحياة، وأن تكون شهاداتهم العليا أو المتوسطة نقطة بداية وليست نقطة نهاية، هنا نجد أنفسنا أمام مجموعة من التصوّرات قد تبدو متنافرة وقد يظنها بعضنا خيالات ويحسبها بعض آخر حقائق. - البحث عن جدوى:لعل أوّل هذه التصوّرات يتعلق بمردود التعلّم نفسه، هل يجد المواطن العربي جدوى من التعلم واستمراره يوماً بعد يوم، لن أقفز إلى الحياة في المجتمع الأمريكي ولا الأوربي لأدلل على الفائدة التي تعود على المتعلمين في حين يقع الغرم أو التكلفة على غير المتعلّم أو على غير المستمر في تلقي العلم، ولكنني أفضّل أن أدخل إلى الموضوع من مداخل أخرى.
المدخل الأوّل: يفرق بين عمليتين انسانيتين مرتبطتين بالنشاط العقلي، وهما التعلم والتعليم، وبالتالي مدى مسؤولية الدولة عن إتاحة فرص التعلم الذي هو عملية إيجابية تقتضي قدراً من الجهد (بأنواعه المختلفة) وهنا يأتي دور الفكر التنفيذي في إرساء السياسات الكفيلة بالتعبير عن رغبة الدولة في دفع مواطنيها إلى التعلّم، ولن أتحدّث أيضاً عن سياسات إيجابية مستقرة في المجتمعات الغربية، وأنّ هذه السياسات تدفع هؤلاء إلى التعلّم المستمر بحكم أنهم لا يستطيعون الترقّي ولا حتى الاستمرار في أي وظيفة في الحكومة أو حتى في القطاع الخاص أو الفردي من دون التعلّم، ولكني سأتنازل وأتواضع في أهدافي إلى الحديث عن الجانب الآخر وهو جانب تقليل النفقات المعيشية (والجهد بجميع أنواعه في مرحلة لاحقة) أي أني أريد ما يسمى بلغة الاقتصاد إنقاذ الموارد وتوفيرها لأولئك الذين يستمرون في التعلّم مقارنة بالذين يحجمون عنه، وبحيث تصبح تكلفة هذه العملية الإيجابية أدنى ما يكون بالنسبة لما يتكبّده المواطن. وهذا ما هو يدفع بنا مباشرة إلى الجانب الثاني أو المدخل الثاني في فكرنا، وأنا أفضّل أن أعبّر عنه في صيغة سؤال واضح يحتاج إلى إجابة واضحة: ما هي الوسائل الكفيلة بتشجيع المواطنين العرب على التعلّم وعلى المعرفة.؟ هل تؤدي المعرفة مثلاً إلى الثروة؟ وهل ستصبح هي السبيل الأوّل في المستقبل القريب إلى تحقيق مثل هذا الهدف المحبوب؟ بعبارة أكثر اختصاراً، هل يصبح استمرار التعلّم بمنزلة الوسيلة الحتمية أو الأكثر ضماناً لتحقيق الثروة في المجتمع العربي مع حتمية تضاؤل دور الوسائل الأخرى بحكم الآثار المتسارعة والمتراكمة التي نشأت عن ثورة المعلومات؟، وكالأمر في المداخل التي تؤدي إلى بعضها، فإننا نجد أنفسنا أمام المدخل الثالث والأخير، وهو السؤال عن المناخ العام أي "القيمة" وذلك بعد السؤال عن "الوسيلة" وبعد السؤال عن "التكلفة". ولعلنا الآن نستطيع بشيء من التفصيل أن نتأمل هذا المدخل بعناصره الثلاثة: التكلفة، والوسيلة والقيمة. سنبدأ بالعنصر الأوّل من مداخلنا، وهو التنبيه إلى أن ما ننادي به ونتكلم عنه اليوم هو التعلم مدى الحياة وليس "التعليم" مدى الحياة، وأظنني لست في حاجة إلى أن أذكّر بالفرق بين المصطلحين، ولكني مع هذا، سأستعمل أحد أبسط الفروق بينهما، وهو أنّ التعلّم عملية إيجابية أكثر من أن تكون عملية سلبية، أي أنّ الإنسان يبذل جهده لكي يكتسب المعرفة بدلاً من أن يتلقاها، وليس التلقي في حد ذاته بالعملية السلبية، ولكنه على كل حال، أقل إيجابية من الاكتساب، كما أنّه أكثر سلبية من الاكتساب، وهذا المفهوم النسبي للفارق بين التعلّم والتعليم هو الذي يقودنا إلى استيعاب طبيعة الجهد الذي ينبغي بذله من أجل القضية التي نتناولها، فنحن كدولة أو كنخبة سيداهمها القرن الثاني والعشرون ولن نكون مسؤولين عن رسم سياسات تعليمية بقدر ما سنصبح مسؤولين عن تنمية ميول نفسية تجاه المعرفة، وهكذا فلابدّ أن تعمل الدولة (والنخبة الحاكمة أو المفكرة) في كل سياساتها على تنمية احترامها للمعرفة، وكذلك على تنمية عدم احترامها، أو بالأولى احتقارها للجهل، ونحن لا نطلب من الدولة أن تصوغ قوانينها وقواعدها بحيث تعاقب الجهل، ولكننا نريدها أن تصوغ قوانينها بحيث تثيب وتكافئ وتشجع المعرفة وأن تيسّر على العارفين. وليس تحقيق هذا الهدف بالمستحيل، فالدولة – على سبيل المثال – متحكّمة في أسعار تقديم الخدمات الإعلامية الجديدة سواء كانت خدمات القنوات الواردة عن طريق الأقمار الصناعية أو خدمات الطريق السريع الدولي القادمة عن طريق شبة الإنترنت، وفي وسع الدولة في هذه اللحظة أن تبحث عن السياسات التي تيسّر بها المعرفة على طالبي المعرفة، وأن تموّل الإنفاق على تيسير هذه الخدمات مما هي قادرة على استنفاذه أو تحصيله من طالبي المتعة! ومن العجيب أنّ الدولة كانت تتبع مثل هذا التفريق في تقديم الخدمات وتسعيرها في عدد من المنتوجات الخدمية، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر –: المشتقات البترولية حيث كانت الدولة تعيد تسعير مشتقات البترول بأسعار متفاوتة غير متطابقة ولا متكافئة مع سعر التكلفة، وكان الناس يلاحظون أنّ الكيروسين – مثلاً – لا يبلغ سعره إلا 20% من سعر البنزين، بينما سعره في العالم المتقدم يبلغ 90% من سعر البنزين، ولكن الدولة كانت تلجأ إلى سياسة إعادة تسعير المشتقات البترولية لتحميل المنتج الذي يستهلكه مستهلكوا المتعة بتكاليف المنتج الآخر الذي يستهلكه السواد الأعظم (الكيروسين) في إنذاج رغيف الخبز في المخابز العامة، وفي إضاءة البيوت الفقيرة وفي تشغيل سيارات النقل العمومية... وهكذا. وإذن، قد كان – ولا يزال – من الممكن تحقيق ما يمكن أن نسمّيه بتمويل هدف نبيل على حساب المستفيدين من متعة قد تكون مشروعة، ولكنها لا تتمتع من حيث الاستراتيجية القومية بأهمية الهدف النبيل، وهكذا يمكن رسم سياسات الدولة العليا بحيث تنحاز لما تراه ضرورياً لتحقيق أهدافها الكبرى وحل مشكلاتها الطارقة، حتى لو أن إعادة توزيع أعباء المعيشة قد فرض الانحياز إليها على حساب الرغبة في التمتع. ولكن، هل يكفي هذا التدخّل السياسي لخلق الرغبة في التعلّم عند الناس؟ بالطبع لا، فلربما ساعدت الوسيلة السابقة على تشجيع الراغبين في التعلّم على أن يواصلوا هذه الرغبة بأقل تكلفة، ولكن يبقى السؤال الأهم وهو: كيف نخلق الرغبة في التعلّم من الأصل؟ وهذا بالفعل هو السؤال الأكثر حيوية، وأظننا أننا جميعاً تعرف إجابته وهي تتمثل في أن تكون المعرفة نفسها هي السبيل الأقوم للوصول إلى كل المواقع المتقدمة بكل ما تعنيه كلمة الوصول من مستويات سلطوية وأدبية ومادية واجتماعية... إلخ. فهل يمكن لنا اليوم أن نزعم أنّ العلم أو المعرفة أو الإجادة أو التفوّق أصبحت – الآن ونحن على أعتاب القرن الجديد – هي المعيار الأهم للوصول إلى المواقع الوظيفية الأكثر أهمية أو حتى إلى المكانة الاجتماعية الأكثر جاذبية. سوف يسارع القارئ بالنفي ومعه كل الحق، ولعل هذا هو أحد مأزق عملية التنمية لاجتماعية والاقتصادية في عالمنا العربي المعاصر، ولكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن معظم الثروت التي يشاهدها الناس اليوم في أيدي المليونيرات لم تتحقق إلا بفضل "المعرفة" أيّاً كان نوع هذه المعرفة، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المعرفة مقتصرة على دهاليز السلطة وأصحاب القرار للحصول على الامتيازات والإعفاء من الواجبات، ومن ثم يتحقق توازن إيجابي ضخم في ميزان المليونير، هذا صحيح، ولكن من حسن الحظ أيضاً أنّ المجتمع المفتوح أصبح يهدد مثل هذا الأسلوب بشدّة، فالصحافة تكشفه، والمجتمع يدينه، والتشريع غير قادر على أن يحميه، هذا فضلاً عن أنّ السلطة لا تستطيع أن تكرر حماية مثل هذا النوع من الثروة ولا سبيل الوصول إليها. وهكذا فإنّ "المعرفة الحقيقية" سوف تعود إلى أخذ مكانها ومكانتها كعامل أساسي مهما بدا لنا من أنّ النفوذ والواسطة والمحسوبية قد احتلت مكانها، وربما تصل المعرفة عن قريب إلى حد أن تكون العامل الأساسي الأكثر خطورة وتأثيراً في صنع الثروة والحصول عليها، ومن ثمّ تعود الرغبة الإيجابية في التعلّم إلى الوجود بصورة مكثّفة في سلوكيات الجماهير واتجاهاتها. ولكننا نجد أنفسنا في حاجة مرة أخرى إلى الإجابة على سؤال ثالث يقول: هل يكفي وجود الرغبة في التعلّم من جانب الأفراد ووجود الرغبة من السلطة في تشجيع التعلّم لدى السلطة أو الحكومة؟ ربّما كان الجواب بالإيجاب صعباً، إذ يظل الأمر في حاجة إلى ما هو أوسع تأثيراً من ذلك بكثير، وهو ما قد يمكن لنا أن نسميه بالمناخ الداعي إلى المعرفة، وهذا المناخ هو أصعب مكون من مكوّنات المشروع الذي نحن بصدده، وربما أبيح لنفسي أن أتجاوز فأقفز بعض الشيء إلى وصف دقيق يلخص كل ما قد أستطيع أن أصف به كلمة المناخ، وذلك حين استعير مقطعاً من آية قرآنية يقول فيها الحق جلّ جلاله (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11)، فهذه الرفعة التي ينبغي أن تحرص الدولة على توفيرها من جانبها للذين أوتوا العلم تمثّل أفضل سبيل كفيل بتقديس العلم وتبجيل العلماء والنظر إلى العلم والعلماء نظرة مفعمة بالاشتياق إلى الانضمام إلى ركبهم، على نحو ما يشتاق إلى السلطة الطامحون والمتطلعون في كل مجتمع، عندئذ يكون الحصول على تقدير علمي رفيع هو الشغل الشاغل لأحد المفكّرين أو الجامعين الكبار بحيث يشغله تماماً عن البحث عن الوصول إلى منصب سلطوي كالوزارة مثلاً، فإذا وجدت أن مجتمعاً قد أصبح يسير في هذا الطريق فلك أن تطمئن على أن مناخ المجتمع قد أصبح كفيلاً بإعطاء الفرصة للتعلّم مدى الحياة بين أبنائه جميعاً. المصدر: مجلة العربي/ العدد 488مقالات ذات صلة
ارسال التعليق