إنّ الثقافة ليست امتيازاً، إنها حقّ للجميع. وحيث تكون الثقافة يكون الفكر، وحيث توجد الثقافة رفيعة شاملة، يوجد الفكر رفيعاً شاملاً. والفكر الإنساني لا ينسى أبداً وظيفته الرئيسية وهي: تحويل الجهالة إلى معرفة، والمخاوف إلى جرأة، والعشوائية إلى منطق، والسذاجة إلى وعي مكتمل، يجب تحويل جميع غرائزنا ومشاعرنا وطبيعتنا إلى طاقة مفكرة. وللثقافة نقطتا بدء: الجماهير الإنسانية، والطبيعة الإنسانية.
ولقد ذهبت عصور الامتيازات ولن تعود.. ومن ثمّ فقد شرعت الجماهير تُمسك بأزمة حياتها. ونقل الثقافة للكافة على رأس واجبات عصرنا والتزاماته تجاه نفسه وتجاه الأجيال. وكلّ تطور لنا إلى الأفضل، رهين بما يتوفر لنا من فرص الثقافة والعلم. ولكن أي نوع من الثقافة نقدم للناس؟ إنّ طبيعتنا الإنسانية، تملك البوصلة التي تحدد وتشير إلى حاجاتنا الثقافية. هذه الطبيعة التي لم تخلق بين عشية وضحاها.. وإنما تكوّنت عبر ملايين السنين، وأصبحت تمثل كوناً هائلاً زاخراً بالرؤى والتجارب والإمكانيات. فتوجيه الثقافة ووضعها تحت إمرة الوصاية، صيانة للعُرف السائد، والقيم السائدة عمل غير صالح، لأنّ جهة الاختصاص الوحيدة في توجيه الثقافة، هي طبيعتنا الإنسانية ممثلة في الإرادة الكلية الخيرة لبني الإنسان. وأي نوع من الثقافة تقدمه للناس؟ إنّها الثقافة كلّها، والمعرفة جميعها. فالحظر، أياً كان لونه، لا سلطان له على الفكر، ولا ينبغي أن يكن له سلطان على الثقافة الموضوعية الأصيلة. إنّك إنسان قبل أن تكون مهندساً أو طبيباً أو تاجراً أو نحو ذلك، وإنّك إنسان ذو عقل، كما إنّك إنسان ذو معدة، وكما يجب عليك تغذية معدتك يجب عليك تغذية عقلك؛ وليست الهندسة أو الطب وغيرها تُغذِّي عقلك إلّا في ناحية محدودة ضيّقة. إنّ الطب يُغذّي مجموعة من الأجهزة والغدد والخلايا في الجسم، ولكن مجموعة صغيرة من الخلايا في الدماغ وربما هي الأهَمّ لا تجد غذاءها في الطب ولا الهندسة، إنما تجده في المعلومات العامة والثقافة العامة. وليست الجرائد والمجلات الرخيصة كافية للغذاء الذهني النافع.. بل إنّ كثيراً من هذه المجلات الرخيصة تضر أكثر ما تنفع.. لا نريد أن نقيم لك البراهين بأكثر من أن تقارن بين شباب قضوا أوقات فراغهم في لعب الطاولة أو ورق اللعب أو حديث فارغ في الأندية والمقاهي، وبين شباب أحبوا الكتب والمطالعة، ووضعوا لهم برامج لتثقيف نفوسهم وتوسيع عقولهم؛ فغيروا عقليتهم. ومن ذلك الحين أصبحت لهم مكتبات تشمل النفائس من الكتب، وشَتّى أنواع العلوم، أريد أن تقارن بين هاتين الطائفتين أيهما أكثر لذّة ومتعة لأنفسهم، وأيّهما أكثر نفعاً للأُمّة، وأيها أجدر بلقب إنسان؟ لا تظن أنّك تستطيع أن تكون طبيباً عظيماً بقراءتك في الطب وحده، ولا أن يكون زميلك مهندساً عظيماً بقراءته في الهندسة وحدها.. فالعقل وحده، وثقافته في أي مجال آخر يفيد صاحبه في الموضوع الذي تخصص فيه.. فكم أتت فكرة طبية سامية من ثقافة اجتماعية أو غيرها.. وكم أتت فكرة هندسية عظيمة من قراءة كتاب في الأدب، أو في الاجتماع. وفي بعض الأحيان أنّ كثيراً من الأطباء ينقصهم المنطق مثلاً، فلو تعلموا شيئاً من المنطق لاستطاعوا أن يحددوا بالضبط نوع المرض ونوع العلاج، وخاصة في الأمراض التي تتشابه أعراضها، وتتقارب أوصافها؛ فالمنطق وحده هو الذي يستطيع أن يقول بناء على هذه الأعراض المتشابهة إنّ هذا المرض كذا دون كذا. والطبيب الناجح هو الذي مُنح ملكة منطقية بالفطرة، ولو نُمِّيت هذه الملكة الفطرية بشيء من الفلسفة والمنطق العِلْمي، لكان صاحبها أنبغ وأعظم. مفتاح هذه المشكلة أن تجتهد أوّل أمرك، أن تكون لك هواية في فرع من فروع الثقافة العامة، كنوع من دراسة التاريخ، أو نوع من الأدب، أو نوع من الدراسة النفسية أو الاجتماعية بجانب دراستك الخاصة، تبدأ فيه على مهل، كما يفعل مَن يريد أن يمرّن نفسه على هواية الكتابة والتأليف أو الرسم أو نحو ذلك، فإذا صبرت على هذا قليلاً، وجدت أنّ لذتك تنمو شيئاً فشيئاً. تصور أنّك ستعيش بعد ذلك أربعين أو خمسين عاماً، وتصور ماذا تجني في هذه السنين الطوال، إذا أنت صرفت جزءاً كبيراً منها في تقويم نفسك وتثقيف عقلك؟.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق