◄العقل يتحسس معالم الطريق، ويستنبط من مصادر عدة إشارات للفعل والكف، أما النفس فتشكل البنية العميقة للسلوك والعلاقات، وفيها تصب حصيلة ذلك.. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 21).
وإذا استعرضنا أدبيات الأُمم، وجدنا تركيزاً غير عادي عليها، حيث المطالبة الملحة بالصفاء والنقاء والتطهير من أوضاع المادة والشهوات، وحيث المطالبة بالرقي والسمو والواقع...
نصوص كثيرة تشير إلى محورية (تزكية النفوس) وإصلاحها في رسالات الأنبياء -عليهم السلام- مما يدل على أنّ العناية بها ظلت على مدار التاريخ ذات أهمية استثنائية، كما ظلت درجة صلاحها مقياساً معتبراً لدى استجابة الناس للدعوة، وقبولاً للهداية. يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2). فجعل تزكية النفوس مهمة أساسية من مهمات الرسول (ص) وقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، فحكم بالفلاح لمن اهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها
والقرآن الكريم يعلمنا أنّ زوال النعم، وتبدل الأحوال إلى الأسوأ، لا ينشأ أساساً من تدهور البيئة، ولا خراب العمران، وإنّما من تغير النفوس وانحطاطها: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) (الأنفال/ 53-54). وإذا أراد الناس استعادة ما فقدوه، وإصلاح ما أفسدوه، فالخطوة الأولى على طريق العودة أيضاً نفسية: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرّعد/ 11).
إنّ اهتمام كلّ فرد بنفسه صفة تسيطر على غالبية البشر، فحب النفس جبّلي، للحفاظ عليها لأنّ النفس هي أوّل محاور الرؤية ومركز التفكير ونقطة بداية الشعور، وضياع النفس يعني ضياع المعاني واضطراب الأشياء واختلال التوازن والموازين العقلية.
وحين نتأمل النفس -كما دعانا ربنا- سنجد أنّ جوهر النفس هو العقل، وحين يغيب العقل تنكمش النفس وتتجمد. ويتعذر الإحساس بأي شيء بدون العقل، والشعور بالسعادة أو بالشقاء يكون عن طريق العقل. والمعرفة مستحيلة بدون العقل، وأفضل وأنفع المعرفة -على الإطلاق- هي معرفة العقل لخالقه، ثمّ معرفة المرء نفسه، فلا يمكن معرفة النفس بدون معرفة خالقها ومراحل خلقها وغايتها.
ومن فضل الله أنّ ما يدور بداخل النفس (في عقلها) لا يمكن أن يطلع على حقيقته مخلوق، فلو إطلع الناس على ما يدور بعقلك لتغيرت نظرتهم إليك وصعب تعاملك معهم وتعاملهم معك.
ويشير إلى هذا الفضل العميم الإمام زين العابدين (ع) في مقطع من مناجاته المعروفة بـ(دعاء أبي حمزة) فيقول: "فلو إطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلتُه، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إليَّ، وأخفّ المطلعين عليَّ، بل لأنك يا رب خير الساترين، وأحلم الأحلمين، وأكرم الأكرمين...".
ونحن نرى كيف تؤثر النوازع النفسية السلبية على مستوى العقل وحركته، من خلال التصوّر الخاطئ للذات وللآخرين.
وندرك كيف يعالج العقل القوي نقاط الضعف في نظرة الإنسان إلى نفسه وتحليله لها، وتدفع الإنسان إلى اكتشاف مواقع الإحساس بالنقص ما يوحي إليها بالسير في طريق الكمال في تصاعد قيمي وعملي.
يقول الإمام عليّ (ع): "أفضل العقل معرفة الإنسان نفسه، فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل".
فللعقل آفاق واسعة في إدراك الحقائق ومعرفة الأشياء، وما يحيط بها من ظروف وأوضاع، ما يغني ثقافة الإنسان ووعيه للأشياء، ولكن ذلك كلّه يجعله مربوطاً بالخارج، منفتحاً عليه في (الصورة) التي يرسمها للواقع في تنوعاتها العامة والخاصة، ولكن تبقى معرفة النفس هي الأساس في الثقافة، في وعي الذات لنفسها، ولعناصرها الفاعلة المتحركة التي تقيم للإنسان حياته، وتنتج له طاقاته في الفكر والحس والشعور والحركة، للوصول إلى الأهداف الكبيرة.
بل إنّ الحب إذا تفاعل من دون عقل لا يمكن أن يضبط؛ وأخطر ما في الحب أنّه قد ينسي الحقائق ويعمي (وكذلك الكره)؛ لأنّه -في الغالب- نشاط عاطفي أكثر منه عقلي، أي أنّ العقل في حالة الحب (أو الكره) يتراجع خلف العاطفة، بسبب العمى والنسيان والتناسي. ولذلك فمخاطر الحب (أو الكره) قلما يفيد فيها العلاج العقلاني، بل ينطبق عليها قاعدة أنّ (الوقاية خير من العلاج). وليس المقصود الوقاية من الحب، ولكن المقصود هو التفكير في حقيقة الشيء قبل الغرق في حبه أو الاندفاع في كرهه، لأنّه أثناء الغرق تقل احتمالات النجاة وتختل الطباع والموازين ويتعرض العقل لما يشبه الشلل.
وفي حالة خمول العقل فالنفس تمتص من محيطها الكثير في فترة النمو والنشأة، وبعد ذلك تبدأ في الطرح من نوعية قريبة الشبه بما امتصت.
إذا شعر المرء بالغبطة لنجاحه في أمر ما، فإنّه سيتعرض لتيار من الأفكار الشارحة لأسباب النجاح، والمذكِّرة بالإمكانات التي تم توفيرها له، والعقبات التي تم اجتيازها؛ وحين يقلِّب الإنسان نظره في إخفاقه في أمر، كان يأمل منه الكثير، ويتمادى في بحث أسباب الإخفاق، والأوهام الكثيرة التي تلبِّس بها حوله، فإنّ فيضاً من مشاعر الإحباط والقلق وعدم تقدير الذات، والخوف من تكرار الإخفاق، سوف يجتاحه، وينغص حياته..
وللخلاص من الأفكار السيئة والمشاعر المحبطة علينا أن نتبع طريقة إغلاق الملفات حيث يمكن أن نستخلص العبر والدروس الممكنة من إخفاقات الماضي، ثمّ نحذفها نهائياً من اهتماماتنا، فلا ينبغي لنا أن نقع تحت ضغوط المشاعر وعلينا عوضاً عن ذلك أن نصنعها عن طريق العمل الصالح، والصمود في مواجهة الصعاب. وفي هذا يقول الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34).
لقد أنزل القرآن الكريم الفلسفة من السماء إلى الأرض، ومن النظر إلى العمل، ومن النظر في الكون إلى النظر في الإنسان، فجعل معرفة النفس هي الأساس: بدأ في إصلاح المجتمع بإصلاح تعليمه، فإصلاح المعرفة والعلم هو رُقي المجتمع، بدأ بإصلاح العلم والفضيلة معاً فكان العلم هو الفضيلة والجهل هو الرذيلة، وأسس بذلك المنهج التوليدي، فأقام التفكير، وأثبت حقائق الأشياء، فقوّم الأخلاق بالمقاييس الثابتة..
وفي قمة ذلك يأتي العقل الذي ينفتح بالفرد على إنسانيته وإنسانية الآخرين وعلى كلِّ امتداد المسؤولية بعد انفتاحه على الله الذي خلق ذلك كلّه بما أبدعه من تكامل الروح والجسد، والعقل والعاطفة، وبما ألهم كلّ نفس هداها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ معرفة النفس -في أبعادها النفسية والفكرية والحركية- توحي للإنسان بالخطط العملية التي تربطه بالآخرين في طريقة التعامل، وفي أسلوب الحوار، وفي إتخاذ الموقف، لأنّ علاقات (الذات) بالخارج ترتبط بالعناصر الكامنة في داخلها باعتبار أنّ الخارج يمثل صورة الداخل.
فإذا كان الإنسان يتمثّل الوضوح في الرؤية، لما يملكه من عناصر حية من تكوينه الذاتي وفي نظرته إلى الواقع، فإنّه يتحرك من خلال هذا الوضوح في إتجاه سليم، فتستقيم له الأمور وتتوازن أمامه الأشياء، وترتبط لديه النهايات بالبدايات في سلبياتها وإيجابياتها، وبذلك ترتفع لديه المعرفة بالله من خلال معرفته بالإبداع في خلقه وتكوينه. وهذا هو ما توحي به الآية القرآنية المعبّرة عن الترابط بين منطقة الحس الداخلي والحركة الخارجية: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 53).
وهذا يأخذ بنا أن ننطلق في محور عملي جاد:
1- الجدة وتقويم النفس: ذلك لأنّ أي تغيير لا يكون صاحبه جاداً فيه فهو تغيير هش لا قيمة له. هذه الجدية ينبغي أن يتبعها تقويم لواقع النفس وذلك من عدة جوانب، لعل من أهمها:
أ- قدرات الفرد ومهاراته.
ب- رغبات الفرد وميوله وهواياته.
ت- الإمكانات المتاحة للفرد (مادياً ومعنوياً).
ث- نقاط القوة ونقاط الضعف.
ج- الفرص المتاحة والمخاطر المتوقعة.
2- تأمل المستقبل: بعد تقويم واقع الذات، لابدّ له بعد ذلك أن ينظر إلى الأمام، وأن يحدد ماذا يود أن يكون في المستقبل، ولذا فإنّ عليه القيام بأمرين:
أ- تحديد الرؤية: هي الحلم بالمستقبل، أو الصورة التي يرسمها الإنسان نفسه، وما يود أن يكون عليه بعد سنوات عديدة، ولتكن عشر سنوات مثلاً.
ب- تشكيل الرسالة: الرسالة تعبر عن غاية الفرد، وماهيته، وما المجال الذي يود التميز به، والخدمة التي يرغب في تقديمها، والجمهور الذي سيتعامل معه.
3- التخطيط للنفس: بعد أن تتضح الرؤية، ويتم تشكيل الرسالة، ويعرف الإنسان غايته وما يود الوصول إليه في المستقبل، فإنّه يبدأ بالتخطيط للوصول إلى غايته تلك وتحقيق آماله وطموحاته، وهنا ينبغي تحديد التالي:
أ- الأهداف المرحلية قصيرة المدى.
ب- الوسائل الموصلة إلى هذه الأهداف.
ت- الأنشطة مع برمجتها زمنياً.
ث- السياسات الحافظة والضابطة للأهداف والبرامج.
4- التوكل على الله: إنّ آفة كثير من الناس أنهم يترددون كثيراً في تنفيذ ما يخططونه لأنفسهم، لذا ينبغي أن يعزم الإنسان على بدء تنفيذ الخطة، وأن يتوكل على الله ولا يتردد، كما قال الله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159). وينبغي كذلك أن يهيئ المغيّر لنفسه، ويوفر كلّ ما تستلزمه الخطة من إمكانات بشرية أو مادية أو معنوية.
5- التقويم والعلاج والاستمرار: إنّ واقع التنفيذ قد لا يتطابق مع الخطط المرسومة، لذلك ينبغي أن يراقب الإنسان أداءه، ويقوّم واقعه بعد بدء التنفيذ، ثمّ يتعرف على الفجوة بين الواقع الحالي والأمل المنشود، ثمّ يتعرف على الفجوة بين الواقع الحالي والأمل المنشود. وبعد كلّ ذلك فإنّ على المغيّر لنفسه أن يصلح كلّ إعوجاج، وأن يعالج كلّ انحراف، مع الاستمرار ومواصلة السير حتى يتم التغيير المنشود.
إنّ كل الحلول في الرؤية الإسلامية، هي حلول تتم في الداخل أوّلاً، ثمّ يتم الانطلاق إلى الخارج. الأُمم التي لم تجد الطريق الصحيح في الحياة، تحاول دائماً أن تغطي على مشكلاتها الداخلية بالإتجاه إلى الخارج، تتسول منه الحلول، أو تصرف عن طريقه الانتباه عن أزماتها الداخلية من خلال اختراع حرب قريب أو بعيد.. ولا يختلف سلوك الأفراد أيضاً عن هذا المسلك، فحين تجف المنابع الداخلية للعيش الهانئ فإنّ كثيراً من الناس يسعون -بدل إعادة الحيوية إليها- إلى تنظيم البيئة من حولهم، ويضفون عليها المزيد من اللمعان.
إنّ كلَّ سياق إصلاحي لشؤون الأُمّة يجب أن يرتكز على سياق داخلي ذاتي، يتمثل في تحسين الخصائص والأوضاع النفسية والسلوكية، وإلا فإنّ النتائج ستكون مخيبة للآمال. ►
المصدر: كتاب الإعلام وبناء الأُسرة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق