• ٥ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لمــــاذا الزواج؟

مركز نون للتأليف والترجمة

لمــــاذا الزواج؟
◄الحثّ الشرعيّ:

الزواج في الإسلام مبنيّ على عقد اسمه "عقد الزواج"، وبمجرّد أن يتمّ هذا العقد بين رجل وامرأة يعني أنّ مجموعة من الحقوق والواجبات قد ترتّب على كلٍّ منهما، أي أنّهما قد وافقا على نمط من العلاقة، وعلى مجموعة من الضوابط بمجرّد الموافقة على عقد الزوجية.

يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل/ 72).

وقد اعتبر الإسلام الزواج أمراً إيجابياً وكمالاً للإنسان، فقد ورد عن الرسول الأكرم (ص): "ما بُني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج".

لقد حثَّث الرسالة الإسلامية بشكل كبير على الزواج وبناء الأسرة، وأعطت الامتيازات للمتزوّج على العازب، حتى صار نومه أفضل من قيام العازب كما ورد في رواية عن رسول الله (ص): "المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائم القائم العزب"، وعباداته أفضل بدرجات كما يستفاد من الرواية عن الإمام الصادق (ع): "إنّ ركعتين يصلّيهما رجل متزوّج أفضل من رجل يقوم ليله ويصوم نهاره أعزب".

 

أهداف الإسلام من بناء الأسرة:

إذا عدنا إلى الروايات الشريفة نجد عن رسول الله (ص): "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتّق الله في النصف الباقي".

وفي رواية أخرى عنه (ص) تظهر فائدة أكبر للشباب: "ما من شاب تزوّج في حداثة سنّه إلا عجّ شيطانه: يا ويله يا ويله عصم منّي ثلثي دينه، فليتّقِ الله العبدُ في الثلث الباقي".

ويمكن أن يُدّعى أنّ: هذا نوع من التشجيع على الزواج، ولكنّه ليس كذلك، بل هو وصف للواقع. إنّ مقوّمات الزواج الذاتية قبل أن ندخل إلى تفاصيلها، تحقّق نصف الدين، لأنّها تشكّل حماية حقيقية من مجموعةٍ من العقد والمشاكل والعقبات بمجرّد حصول الزواج بين الرجل والمرأة، فالزواج في الحقيقة يحقّق مجموعة من الأهداف الهامّة للزوجين وللمجتمع.

فما هي الأهداف التي يريد الشارع المقدّس تحقيقها من خلال الزواج، وبناء الأسرة؟ وكيف صار نصف الدين أو ثلثيه؟ هناك عدد من الآيات القرآنية الكريمة تشير إلى هذه الأهداف:

الآية الأولى:

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (الرّوم/ 21).

يذكر تعالى سبب ومبرّر الزواج في عبارة (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا). وهذه العبارة تعني الاستقرار والاطمئنان والراحة، فالزواج يؤدّي إلى الاستقرار، وهذا الاستقرار شامل ومتنوّع:

1-    على المستوى النفسي: حيث يصبح الإنسان مرتاحاً يعيش حالة حبّ وانسجام في كلّ العناوين التي لها علاقة بالعامل النفسيّ، بشكل ينعكس على حياته كلّها، وفي الرواية عن رسول الله (ص): "زوّجوا أياماكم فإنّ الله يحسن لهم في أخلاقهم ويوسّع لهم في أرزاقهم ويزيدهم في مروّتهم".

2-    على المستوى الجسدي: هناك متطلّبات للجسد عند الرجل وعند المرأة لا يمكن معالجتها إلّا بالزواج، الذي يؤدّي إلى استقرار الجسد ويلبّي متطلّباته.

3-    على المستوى الاجتماعي: هو سكن اجتماعي، لأنّ الإطلالة من خلال علاقات الزواج مع الآخرين تمكّن من أن يبني الإنسان أسرة ويتفاعل مع الآخرين.

4-    على المستوى الماديّ: فهو أيضاً سكن ماديّ فيه تنظيم الأداء اليومي لحياة الأسرة.

5-    على المستوى الإداري: هو سكن إداريّ فيه تنسيق للأدوار بين الزوجين.

فكلّ أنواع الاستقرار موجودة في الزواج، سكن نفسيّ وجسديّ واجتماعي وماديّ وإداريّ، لأنّ الزواج لم يشرَّع ليعالج زاوية واحدة فقط.

وقد وقع الكثيرون في الخطأ عندما نظروا إلى الزواج كمعالج لزاوية واحدة. فعندما ينظر الإنسان إلى الزواج بجزء منه دون الأجزاء الأخرى يعطِّل السكن، لأنّ السكن أشبه بأعمدة لا يمكن أن يستقرّ البناء دون أحدها أو بعضها.

لذلك عندما يقع خللٌ ما في الحياة الزوجية فقد يكون من البداية بسبب طريقة التفكير، فإذا سُئلَ الرجل لماذا تزوّجت؟ يقول لأنّني أريد مَن يخدمني، يعني أنّه أخذ جانباً من هذا الزواج. وإذا سُئلت المرأة لماذا تزوّجت؟ تقول: أنا تزوّجت لأني لم أعد أحتمل البقاء عند أهلي. إذاً كلّ واحد منهما أخذ جانباً ولم يلتفت للجوانب الأخرى. لذلك يمكن أن تتعرض مؤسّسة الزواج بينهما إلى مشاكل، ويقول كلّ واحد منهما أنا لا أشعر بسكن في الزواج، نعم لأنّهما لم يُكملا مقوّمات السكن، فمقوّمات السكن مشتركة ومتعددة وبالتالي لابدّ من العمل معاً لهذا التعدّد من أجل تحقيق السكن فيما بينهما.

الآية الثانية:

(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187).

هذه الآية الكريمة تشبّه الزوجين بأنّ أحدهما هو كلباس للآخر، وهناك فوائد ثلاث يمكن استفادتها:

1-    كلاهما حصن للآخر، فاللباس يحصّن من يلبسه، فيقيه من البرد في الشتاء، ويردّ عنه حرارة الشمس في الصيف. وكلٌّ من الزوجين يقوم بمثل هذا الدور بالنسبة للآخر، فالزوجة حصن للزوج وهو حصن لها، وهذا ما تؤكّده الرواية عن رسول الله (ص): "من أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليلقه بزوجة".

فبالزواج يقي الإنسان نفسه من الانزلاق وراء شهواته وغرائزه لأنّ الزواج يلبّي حاجته الطبيعية التي غرسها الله تعالى فيه.

2-    كلاهما ستر للآخر، فاللباس يستر البدن ويواري سوأته، والزوجة تسدّ الثغرات الموجودة عند الزوج على مستوى الغرائز المعنوية والنواقص المادية، وهو كذلك.

والغرائز هي سجايا مغروزة في الإنسان، لهذا سميت غرائز لأنّها مغروزة فيه منذ فطرته، كغريزة النوع (الإنسان يميل إلى نوعه) ومن مظاهرها العلاقة الجنسية، والحبّ بين الأمّ وولدها، وبين الأخ وأخيه، يعني الميل إلى النوع الإنساني حيث نلاحظ في المظاهر اليومية الانعكاس الطبيعيّ للعلاقة مع الأخ، ومع الزوج، ومع الجار، والصاحب، والزوجة، وهكذا. ونلاحظ – مثلاً – أنّ الإنسان وبشكل طبيعيّ بمجرّد أن يكون ابناً لفلان يولد عنده حسّ عاطفيّ لا يحتاج معه إلى عناء وجهد، فلا نستغرب وجود هذه المحبّة لأنّها مغروزة غرزاً، وهذا منسجم مع ما فطرنا الله سبحانه عليه، فإذا غريزة النوع من مظاهرها الحبّ، العلاقات البشرية، الجنس...، وهي تعبير عن الميل للطرف الآخر كائناً مَن كان، بألوان وأشكال مختلفة.

أيضاً عندنا غريزة حبّ البقاء التي تبرز من خلال الطمع والحرص على الحياة والتعلّق بها، والدفاع عن النفس. كلّها مظاهر تدلّ على أنّ الإنسان يحبّ البقاء ويتمسّك به، لهذا يقاتل من أجل أن يبقى.

إنّها أمور تكوينية مع خلقِ الإنسان، تتهذّب بالتربية وبالاختيار، وتنحرف بعدم التربية وبالاختيار.

وإذا لم يلبِّ الإنسان مطالب الغريزة بشكل سليم، ستنحرف ويؤدّي انحرافها إلى أزمات نفسية واجتماعية وإن كانت لا تقتل. فلو افترضنا شخصاً ليس لديه أب، أو شخصاً ليس لديه ولد، أو لم يتزوّج، أو ما شابه ذلك، فإنّه لا يموت بمجرّد ذلك، لأنّ الأب أو الولد أو الزواج ليسوا حاجات عضوية. فمشكلة الغرائز مشكلة الشقاء والسعادة، ونحن عندما نتحدّث عن الزواج نتحدّث عن مظهر من مظاهر الغريزة، أي نتحدّث عن أداء يمكن أن يؤدّي إلى سعادة ويمكن أن يؤدّي إلى شقاء.

3-    اللباس زينة لمن يلبسه، وبالتالي فالزوجة تُعتبر زينة للزوج، والعكس صحيح، والزينة تنشأ من تصرّفاته وشخصيّته في المجتمع التي ستؤثّر بالتأكيد على الطرف الآخ وصورته في المجتمع، وتنشأ كذلك من طريقة تقديمه للطرف الآخر وعلاقته معه في المجتمع.

الآية الثالثة:

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل/ 72).

إنّ تكثير النسل المؤمن واستمرار الحياة هدف أساسٌ أيضاً، وقد ورد عن رسول الله (ص): "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله".

 

آثار العزوبة:

إنّ العزوبة – وهي العزوف عن الزواج، وبغضّ النظر عن الأسباب الداعية إليها – تعتبر من المصائب الكبرى التي قد تؤدّي بمجتمع مترابط إلى التفكّك والانهيار، لأنّ العائلة هي الحصن الأساس للمجتمع، فإذا ضُرب هذا الحصن، فسيكون المجتمع كلّه في مهبّ الريح على المستوى الاجتماعيّ. وهذه التجربة الغربية ماثلة بتفكّكها ومشاكلها الاجتماعية.

ومن هنا فإنّ حكمة الباري وعلمه بمصالح العباد قضيا بكراهية العزوبة، وأوجبا الزواج على من يخاف على نفسه الوقوع في الحرام، ففي روايات كثيرة أنّ رسول الله (ص) قد ذمّ ترك الزواج، ومنها: "شرار موتاكم العُزَّاب".

وفي رواية أنّ رسول الله (ص) قال – لرجل اسمه عكاف –: "ألك زوجة؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ألك جارية؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أفأنت موسر؟ قال: نعم، قال: تزوّج وإلا فأنت من المذنبين".

ومن المناسبات هنا أن نلتفت إلى ما قد يتصوّره بعض الناس من أنّ ترك الزواج هو مسألة حسنة، ويهدف إلى إماتة الشهوة، وتهذيب النفس، فيتصوّر أنّ ترك الزواج من الطرق المؤدية إلى الله تعالى.

إنّ هذا التصوّر لا ينجسم مع سيرة الرسول الأكرم (ص) وأهل البيت – عليهم السلام –، فلقد كانوا يتزوّجون كباقي الناس، بل إنّ الرسول الأكرم (ص) كان يحثّ الناس دائماً على الزواج، ويُروى أنّه ذمَّ بعض أصحابه ممّن ترك الناس رغبة في العبادة وقال له: "لا رهبانية في الإسلام".

ويروى أنّ امرأةً سألت أبا جعفر الباقر (ع) فقالت: "أصلحك الله إني متبتّلة، فقال لها: وما التبتّل عندك؟ قالت: لا أريد التزويج أبداً، قال: ولِمَ؟ قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة أحقّ به منك، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل".

 

مبرّرات ترك الزواج:

قد يبرّر بعض الشباب تركهم وتأخيرهم للزواج بأنّ الوضع الاقتصادي لا يسمح لهم بذلك، وهذا ما نهت عنه الروايات؛ ففي الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (ص): "من ترك التزويج مخافة العيلة، فقد ساء ظنّه بالله عزّ وجلّ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 32)، فالله تعالى هو وكيل المتزوج كما في هذه الآية الشريفة، وكذلك في الرواية عن الرسول الأكرم (ص): "اتّخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم".►

 

المصدر: كتاب في رحاب الزواج/ سلسلة المعارف الإسلامية

ارسال التعليق

Top