بُشِّر الأنبياء بعضهم ببعض بما كان الله تعالى يخبرهم إياه من دلائل الغيب التي تؤيد دعواهم، وتثبّت أفئدتهم، وتقوّي هممهم في وجه التحدّيات. ومن وجهة نظر الإسلام، فإنّ السيِّد المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام)، قد بُشِّر بالرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في القرآن الكريم بشكل صريح وواضح: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (الصفّ/ 6).
وبشارة عيسى (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تعني بشارته برسالةٍ شاملةٍ من السماء، تُسكت مَن يتجرأ على التشكيك بسماويتها وعالميتها، وأنّها وحي من السماء. ولقد جاءت هذه البشارة من السيِّد المسيح (عليه السلام)، وهو كلمة الله وروحه، ورفيع المقام والدرجات عند الله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (النِّساء/ 171).
الله سبحانه أفاض على عيسى (عليه السلام) من نِعَمه.. ربّاه وعلّمه، وأراد له أن ينفتح بالخير والعدل والمحبّة والرحمة على العالم كلّه، قال سبحانه: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) (آل عمران/ 48-49) أرسله إليهم ليكونوا المنطلق في دعوته، فيمنحه ثقافة الكتاب الذي ربّما تمثّل بالوحي الذي يوحي به إليه، ممّا ينـزله على رُسُله الذين يلتقون على صعيدٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ في الدعوة إلى التوحيد المطلق، وإلى ما يصلح عقول الناس وحياتهم في الإيمان والعقيدة والحياة، وربّما كان يعني الكلمة المكتوبة، من دون أن يتعلَّمها على يد معلِّم خاصّ، باعتبارها معرفةً إلهاميةً يتمثّل فيها الوعي المعرفي للكتابة المقروءة، وإلى جانب ذلك، يعطيه الحكمة التي تصنع للشخصية قوّة الميزان الصحيح الذي يزن به الفكرة والكلمة والحركة، في الخطوات التي ينطلق بها إلى الهدف المطلوب، ولكن من الطبيعي أن يبدأ كلّ رسول رسالته بإبلاغ قومه، ثمّ تمتد رسالته بعد ذلك إلى العالم كلّه (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آل عمران/ 49) بالمعجزة التي تدلّ على أنّي رسول من الله سبحانه وتعالى (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ) (آل عمران/ 49) فعيسى (عليه السلام) كان يصنع تمثال الطير، ثمّ ينفخ فيه، فيلقي الله الروح في هذا الطير، ولم يكن عيسى (عليه السلام) هو مَن يلقي الروح في الطير، وإنّما هو الله سبحانه الذي جعل في نفخة عيسى (عليه السلام) شيئاً من القدرة الإلهيّة.. فهكذا كان الامتداد بين الرسالات حتى يصل إلى رسالة الإسلام والنبوّة المحمدية التي ختمت الأديان خير خاتمة.
وليس فقط المسيح (عليه السلام) مَن بُشِّر بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد بُشِّر زكريّا بيحيا، وبُشِّرت مريم بعيسى، وبُشِّر إبراهيم بإسحاق: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 39)، (إذ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران/ 45)، (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 112).. إذاً البشارة كانت لرسالة إلهيّة مشتركة رغم اختلاف الأزمنة والأماكن؛ لكن الهدف واحد يصبّ في إصلاح البشرية من خلال قيم إنسانية وتعاليم ربّانية تحقّق العدالة للمجتمع الإنساني ككلّ. ما يهمِّنا أن نلفت إليه، هو أنّ الأنبياء كانوا يبشِّرون ببعضهم البعض، ليس من منطلق شخصي أو لاعتبارات خاصّة، بل كانوا ينطقون عن الله بما يوحي إليهم، وكانوا يؤكِّدون من خلال البشارة أهمّية الرسالة التي ستأتي، وما فيها من قيم ومفاهيم لابدّ من السَّير على هَديها، فكلّ الأنبياء خطّهم واضح وواحد، وهو سبيل الله والدعوة إلى صراطه المستقيم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق