طارق راشد (كاتب ومترجم من مصر)
◄تؤكد مراكز السيطرة على الأمراض أنّ التطعيمات المناعية ومياه الشرب المعالجة بالفلور وانخفاض تعاطي التبغ تعتبر من بين أعظم 10 إنجازات في مجال الصحّة العامة بأمريكا في القرن العشرين. وتعد زيارة عدد الأفراد الذين يحصلون على الشهادة الثانوية أحد الحلول التي لا تتردد كثيراً في النقاشات التي تدور حول تحسين النتائج الصحّية للأمريكيين.
هناك كثير من الفوائد المعروفة المرتبطة بارتفاع المستوى التعليمي: فيحصل الخريجون على دخل أفضل، وتقلّ احتمالات الزج بهم في السجن في نهاية المطاف، ويعيشون حياة أكثر صحّة. ويؤكد بيان "الأشخاص الأصحاء لعام 2020" للحكومة الاتحادية، الذي يحدد الأهداف اللازمة لتعزيز الصحّة والوقاية من الأمراض، مثل هذا الارتباط، ويضع أهدافاً لزيادة نسبة طلاب المدارس الثانوية الذين يتخرجون في الوقت المناسب. وهناك بالفعل مجموعة من الأبحاث التي تؤكد أنّ الشخص غير الحاصل على شهادة أكثر عُرْضَة لخطر الوفاة المبكرة عن شخص حاصل على شهادة.
ومع ذلك، ليس لدينا إلّا معلومات قليلة نسبياً عن نسبة الوفيات المبكرة التي يمكن ربطها بالتسرُّب.
وربما تقدم لنا الإجابة دراسة جديدة أجراها باحثون في جامعة ولاية كولورادو وجامعة نيويورك وجامعة ولاية كارولينا الشمالية في تشابل هيل. لقد تناولت الدراسة، التي نُشرت أخيراً في المجلة العلمية المحكّمة البريطانية PLOS ONE، الخطر النسبي للوفاة بين الأشخاص الذين يعانون مستويات متباينة من التعليم ومقارنتها بتوزيع التحصل العلمي عبر سكان الولايات المتحدة. ووصفت إحدى الباحثات المشاركات في الدراسة، فرجينيا تشانج Virginia Chang، النتائج التي تم التوصل إليها بأنّها كانت "مدهشة جداً".
وأضافت تشانج، أستاذة الصحّة العامة في جامعة نيويورك التي تركز على السمنة، قائلة: "كان الفرق في عدد الوفيات التي يمكن عزوها إلى إكمال الدراسة الثانوية أو دون ذلك يساوي الفرق بين المدخنين الحاليين والسابقين".
وباستخدام بيانات الدراسة التي تم الحصول عليها من مراكز السيطرة على الأمراض لتقييم تأثير مستويات التعليم على الوفيات بمرور الوقت، خلص الباحثون إلى أنّه باستخدام الفوارق التعليمية التي لوحظت بين الأشخاص الذين ولدوا في عام 1945، كان من الممكن تجنب وفاة مئات الآلاف من البالغين في الولايات المتحدة في عام 2010 لو كان هؤلاء الناس قد حصلوا على شهادة المدرسة الثانوية أو درجة البكالوريوس. وعلى وجه التحديد، ارتبطت وفاة ما يقرب من 145 ألف فرد بفشلهم في "الحصول على شهادة الثانوية العامة بينما كان السبب في وفاة حوالي 110 آلاف شخص بالغ هو فشلهم في استكمال برامج الحصول على شهادة خلال أربع سنوات".
ومن بين الذين لقوا حتفهم في وقت مبكر، كان هناك ارتفاع في معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وهي النتيجة التي كررتها دراسات سابقة تتبّعت العلاقة بين معدلات الوفيات والتحصيل العلمي. "يتم شرح هذا الاتجاه كأفضل ما يكون من خلال التبغ والسمنة وارتفاع ضغط الدم"، حسبما صرّح خبير علم الأوبئة في الجمعية الأمريكية للسرطان أحمدين جمال Ahmedin Jemal، لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية عن دراسة توصلت إلى نتائج مماثلة في عام 2008.
ووجدت الدراسة الأحدث أنّ التفاوت في معدلات الوفيات بالنسبة للمستويات المختلفة من التعليم قد زاد بشكل ملحوظ مع مرور الوقت. ويمكن أن يؤدي تشجيع الأفراد الذين لم يكملوا المدرسة الثانوية للحصول على شهاداتهم، أو إكمال دبلوم التعليم العام الخاص بهم، "إلى إنقاذ ضعفيْ عدد الأرواح بين أولئك الذين ولدوا في عام 1945 مقارنةً بأولئك الذين ولدوا في عام 1925"، كما يقول البيان الصحفي الصادر عن الدراسة.
لعبت الوفيات الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية دوراً في الفجوات الواسعة لمعدلات الوفيات هذه المرتبطة بالتعليم أكبر مما فعله السرطان، وهي نتيجة يستشهد بها الباحثون كدليل على أنّ التقدم في خيارات الوقاية وعلاج القلب والأوعية الدموية بين البالغين الذين يحملون شهادة قد لعب دوراً. يقول الباحث المشارك في الدراسة باتريك كروجر Patrick Krueger، أستاذ العلوم السلوكية في جامعة كولورادو: "ما لم تتغير هذه الاتجاهات، فستستمر الوفيات المرتبطة بتدني التعليم في الزيادة مستقبلاً".
بعبارة أخرى، يزيد العمر المتوقع. تقول تشانج: "ولكن يجني الحاصلون على مزيد من التعليم أكبر قدر من الفائدة".
تشير هذه النتائج إلى أنّ جهود الصحّة العامة في البلاد اليوم ينبغي أن تركّز بصورة أكبر على تعزيز الحصول على شهادة أعلى، وهو الهدف الذي لا يتردد غالباً في الحوارات التي تُعقد خارج الدوائر التعليمية. إنّ زيادة معدلات التخرج في المدرسة الثانوية ظل لفترة طويلة يعد بمنزلة أرضية لمناطق تعليمية مثل شيكاجو وحملات من نوعية "جراد نيشن" Grad Nation، التي شهدت قفزات كبيرة في العقد المنصرم: في عام 2012، تخرّج أكثر من 80 في المائة من طلاب المدارس الثانوية في الولايات المتحدة في الوقت المحدد، بزيادة قدرها 10 في المائة عما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات.
وما يزال هذا يعني أنّ واحداً من كلّ خمسة طلاب في الولايات المتحدة لم يكمل تعليمه الثانوي في الوقت المحدد. ووفقاً لكلية ستنهاردت في جامعة نيويورك، فإنّ أكثر من واحد من بين كلّ 10 بالغين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 في الولايات المتحدة يفتقرون إلى الشهادة الثانوية؛ ولا يحمل أكثر من الربع درجة البكالوريوس. ربما ينبغي على قطاعات أخرى أن تعمل على تحسين معدلات التخرج، وربما يجب أن تبذل حملات التعليم الحالية جهوداً أكبر لتسليط الضوء على الفوائد طويلة الأمد للحصول على شهادة دبلوم، بما في ذلك كيف أنّ سد فجوة التحصيل له علاقة أكبر مما يفعله التحصيل بمفرده.
ومن قبيل المصادفة أنّ حَمْلة Grand Nation أصدرت أخيراً ملخص بحث يعرض النتائج التي تم التوصل إليها بشأن كيف يمكن لتجارب الحياة وعوامل الخطر أن تجعل الطالب أكثر عُرضَة للتسرُّب من المدرسة الثانوية. وبالنظر إلى ربع قرن من الدراسات التجريبية، يحدد الملخص (الأسباب) التي يمكن أن يكون لها أكبر الأثر على قرار الطفل بالبقاء في المدرسة، بما في ذلك انخراط الأهل في الحياة الأكاديمية، والمشاركة في وجوه النشاط غير الدراسية، والعادات الأكاديمية للأقران، والعلاقات القوية بين الطالب وأستاذه. وربما كانت هذه بمنزلة مجالات ينبغي على الأشخاص خارج التعليم التركيز عليها أيضاً.
تقول تشانج: "في مجال الصحّة العامة وسياسات الصحّة العامة، هناك الكثير من التركيز على (التعامل مع) السلوكيات الصحّية مثل: التدخين والسمنة والتغذية والشرب وهلم جرا. ويجب أن يكون هناك مزيد من الاهتمام للتعليم، وهو محرّك أكثر أهمية لهذه السلوكيات".
يميل نظام الرعاية الصحّية في الولايات المتحدة، وفق ما تقول تشانج، إلى التركيز على "الأسباب المباشرة" للمرض. وتضيف: "نحن نحاول تفتيت الأشياء إلى جميع قطعها الصغيرة على طول المسارات السببية، فإذا كان هناك مَن يموتون من سرطان الرئة، فإننا نركِّز على التدخين لأنّه كان أحد الأسباب المباشرة جدّاً. ولا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بحيث نفكِّر في الظروف الاجتماعية كأسباب أساسية للوفيات".►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 684 لسنة 2015م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق