• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان.. دوحة الإيمان ومرفأ العقيدة

رمضان.. دوحة الإيمان ومرفأ العقيدة

◄رمضان.. يا شهر الله الأعظم، يا شهر الإسلام والصيام والقيام، وشهر الطهور والتمحيص، يا شهراً فضله الله على سائر الشهور وجعل أيّامه خير الأيّام ولياليه خير الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وشهراً أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار.

شهر حبا الله أيّامه المعدودات بمآثر وخصه بمكرمات وأبان فضيلته ومنزلته بأن حجر فيه المطاعم والمشارب، وحرم فيه ما أحل في غيره من الطيبات.

شهر أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وجعل فيه ليلة القدر خيراً من ألف شهر، تتنزل الملائكة فيها بآيات العفو والسلام حتى مطلع الفجر.

 

رمضان مدرسة الروح والفكر:

رمضان مدرسة تطهيرية تربوية، لما آثره الله بفريضة الصيام الذي يحرر النفس من أحابيل الغريزة ومكايدها، وينمي الإرادة الإنسانية لتذوب وتنصهر في إرادة بارئها وخالقها، ويطهر الروح والفكر ويعتقهما من أصرهما وأغلالها، ويكف الجوارح إلّا عما رسم الله لها، ويزهر القلب بالذكر والدعاء والتبتل والانقطاع.

فهو إذاً محطة محاسبة تستحم فيه الروح من أدران المادة وسخائم الذنوب، وتنفض عنها كدورات أحد عشر شهراً تعرضت فيه لمختلف الأجواء ومارست صنوف الأعمال، وهو أيضاً محطة تموين واستعداد ينطلق منها المؤمنون بركائز روحية زاخرة تؤهلهم لخوض غمار الحياة ومعترك الصراع لسنة جديدة حتى إذا اشرفت ذخائرهم على النفاد أدركهم رمضان آخر يتزودون منه مرة أخرى بطاقات معنوية جديدة تعينهم على مواصلة الحياة.

 

فلسفة الصيام:

الإنسان بفطرته وتكوينه البشري كتلة من طين ونفحة من نور، وكلاهما غايات ورغبات، تخلد به إحداهما قبضة التراب.. إلى الأرض وتشيع فيه شهوات المادة ونزوات الحس.. وترنو به الأخرى – نفحة القدس الإلهية – إلى مصاف العقل وسبحات التكامل والعز، وبين هذين التناقضين – المادة واللامادة – كيان متوحد ولكنه في صراع دائم أيّهما انتصر وأيّهما كان أقوى.

من هنا فإنّ صيام شهر رمضان هو بمثابة تكييف روحي وترويض جسدي يعمل على تطهير الروح مما أصابها من أدران المادة وشوائبها ويعطي الزمام للعقل والروح كي ينشطا بعد سكون شهوات الجسد في نظام رتيب وأوقات معينة ولهذا كانت صفة التقوى هي الهدف من الصيام وكما أشارت إليه آيات الذكر الحكيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

والتقوى هي الاتقاء من المعاصي وترك الطرق المؤدية إليها، وليس شيء أدعى للمعصية والذنب من غريزة الطعام وشهوة الجنس، وهذان الطريقان اللذان قد يتغلغل الشيطان منهما إلى أعماق بني آدم ويضله ويغويه بهما يكون الصيام قد سدهما ونظمهما بما يضمن حقوقهما وبنفس الوقت يعطي للروح انطلاقتها.

ومن هنا كان أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم هو الورع عن محارم الله كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص) حيث سأله أمير المؤمنين (ع) من أفضل الأعمال في هذا الشهر – شهر رمضان – فأجابه قائلاً (ص): "يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ".

 

درجات الصائمين:

الصوم هو الاستجابة لأمر الله وامتثال طاعته في الامتناع عن جميع المفطرات وكف النفس وجميع الجوارح عن كلّ ما يخالف إرادة الله ويتباين العباد فيما بينهم في مقدار الاستجابة لهذا الأمر الإلهي وبناء على هذا فإننا نجد الصائمين على درجات فمنهم مَن يصوم ليسقط الواجب عنه ولا يهمه هل قبل منه أم لم يقبل، ومنهم مَن لا يكون حظه في الصوم إلّا الجوع والعطش، ومنهم مَن يتنسك مع قدوم شهر رمضان ويلبس رداء العبادة والفكر، ولكن ما أن ينتهي شهر رمضان طوى عنه ذلك الرداء وعاد إلى لهوه ولذاته، تاركاً فروض الله وراء ظهره.

وثمة، نموذج آخر من هذه النماذج التي لم تدرك مفهوم الصيام الحقيقي ولم تسعد بمعانيه الباطنية. فترى الواحد منهم يتململ تحت وطأة الجوع والعطش ساعات النهار متثاقلاً ومنتظراً بفارغ الصبر لحظة الأذان ليملأ بطنه من صنوف الطعام وألوان الشراب – وكأنّ الصيام عندهم هو الإكثار من هذه المطاعم – وليذهب بعدها إلى مجالس السمو ويقضي ليله بفارغ الكلام وباطل اللهو.

ومن هنا يمكننا معرفة درجة الصائمين ومنزلتهم في كيفية تعاملهم مع هذه الفريضة المقدسة وخروجهم منها بنتائج إيمانية رفيعة. وعلى هذا فإنّ الصوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1-  صوم الجسد: وهو الكف عن الطعام والشراب رجاء الثواب وخوف العقاب واتقاء النار. وهو أدنى الصيام، وأقل ما يمكن أن يأتي به الصائم في شهر رمضان وهو بمثابة المقدمة والتوطئة لما سيأتي من أقسام الصيام الأخرى. ومع هذا فإنّ الله لا يحرم صاحبه عن الأجر والثواب.

جاء في الحديث عن رسول الله (ص): "ولكل شيءزكاة وزكاة الأبدان الصيام".

2-  صوم الجوارح: وهو صون الحواس وكفها عن الذنوب والموبقات ولا يؤدي الصوم معناه الواقعي إن لم يرافق صوم البدن صوم الجوارح والجوانح، وما يصنع الصائم بصيامه إن لم يصن سمعه وبصره وجميع جوارحه عن محارم الله ومناهيه واستعمالها في طاعة الله ومراضيه قال الإمام الصادق (ع): "إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك عن القبيح، وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك ".

وقد أشار رسول الله (ص) في أحاديثه وسنته – وهو القدوة الحسنة والقرآن الناطق – إلى هذه المنهجية الرائعة في الصيام، مؤدباً بذلك أُمته على سلوك طريق التقوى وزجر النفس عن الهوى وكفها عن الأذى في شهر رمضان وغيره فقد سمع رسول الله (ص) امرأة تساب جارية لها وهي صائمة فدعا لها بطعام، فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول الله!

فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! انّ الصوم ليس عن الطعام والشراب: وانما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع ".

3-  صوم القلب: وهو خلوه من جميع أسباب الشر، وصيانته من التفكير في الآثام وتطهير من كلّ ما سوى الله، وذلك لأنّ قلب المؤمن حرم الله، ولا يجري في حرم الله إلّا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه "لا تسعني أرضي وسمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن" حديث قدسي. وصوم القلب أفضل الصيام هو غايته الكبرى ومقصده الرفيع وإلى هذا المعنى أشار الحديث الشريف المروي عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام".

"صوم القلب خير من صيام اللسان (الجوارح)، وصيام اللسان خير من صيام البطن".

وهذا هو الهدف الأساس من وراء التشريع الإسلامي لفريضة الصيام وهو تحقق ملكة التقوى والتي لا يمكن الوصول إليها من دون الالتزام بصوم الجوارح وصوم القلب، وذلك لأنّ الصوم عن الطعام والشراب لا يكون إلّا خلال شهر واحد من السنة ولكن الصيام عن الآثام يجب أن يكون على مدى الأيّام وطوال السنة وهذا ما يتعبأ له المؤمن التقي ويتزود له من شهر رمضان ويتتلمذ في مدرسته التطهيرية.

 

في ضيافة الله:

اختص الله هذا الشهر الفضيل دون سائر الشهور بمكرمة أخرى وهو أن جعله شهر ضيافته لعباده المؤمنين ودعوته سبحانه لأوليائه الصالحين للتزود من موائد كرمه وروافد رحمته فيا ترى لماذا كانت دعوة الحقّ سبحانه في هذا الشهر؟ ومن الذي يفوز بهذه المنزلة العظيمة والضيافة الكريمة أو بعبارة أخرى من ذا الذي هو أهلاً لأن يكون ضيف الرحمن حقاً في هذا الشهر؟

أحاط الله هذا الشهر بهالة من التقديس، هو شهر الإنابة والتوبة وشهر المغفرة والرحمة، وشهر الطهور والتمحيص، به تسمو النفوس عن سفاسف الهوى وتنشط الروح من عقال المادة العمياء وترنو القلوب للتألق بنور العز الأقدس. وهنا نفهم سر الضيافة في هذا الشهر الكريم إذ انّ مقام القرب الإلهي لا يمكن الوصول إليه دون التنزه عن أوحال المادة والتطهر من أدرانها وعندها تخرق أرجاء القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير الأرواح معلقة بنور عزه الأقدس.

والذي يفوز بفخر الضيافة هو ذلك الذي عرف حقاً قدر مضيفه والتزم بآداب ضيافته واستزاد من بره وإحسانه وحرص أشد حرصه ألا يخرج عن رضاه فإن استطاع أن يقوم بهذه الوظائف طيلة شهر الصيام حتى لا يشهد عليه نهاره بتضييع ولا ليله بتفريط واستنار بهدي القرآن وبنيانه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، ونفحات الدعاء وجوائزه، حتى يبلغ ليلة القدر فتشرق عليه أنوارها ويكون ممن تصافحه الملائكة بالسلام والعفو حتى مطلع الفجر ويخرج من ذنوبه وأغلال قيوده بخروج الشهر ويتهيأ لمسيرة سنة كاملة بشحنة روحية وعطاء ثابت.

وممّا نفل الله به هذا الشهر هو أن هيأ فيه جميع الوسائل والطرق التي تدعو للقرب الإلهي فأبواب النيران مغلقة وأبواب الجنان مفتحة والشياطين مصفدة، والقلوب مزهرة بنور المعرفة وأعمدة العفو الإلهي منصوبة في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان وسبل الخير مشرعة، والصائم في عبادة الله حتى وإن كان نائماً – ما لم يغتب مسلماً – لأنّ نومه عبادة وأنفاسه تسبيح ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف – كما جاء في خطبة رسول الله (ص) في فضل شهر رمضان: "فالشقي مَن حرّم هذه العطايا والشقي مَن حرّم غفران الله في هذا الشهر العظيم".

 

جزاء الصائم:

ليس جزاء الصائم هو جنات ونهر فحسب، بل انّ جزاءه فوق ذلك ولا يمكن أن يحيط به بشر جزاؤه هو الله نفسه، ونعم العمل الذي جزاؤه رب الأرباب وخالق الأكوان. ولا غرو في ذلك لأنّ الصوم محض الإخلاص ومنهل الصبر ووسيلة التقوى، روي عن رسول الله (ص) انّه قال: قال الله تبارك وتعالى: "كلّ عمل ابن آدم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به".

وجزاء الله هو فوق ما نتصور من الأجر والثواب المادي، بل هو عطايا ممن يمن بها على من يشاء من خلقه، ومن هو أهلاً لها وأهلها. جاء في حديث المعراج عن رسول الله (ص) قال: يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة والمعرفة تورث اليقين. فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسر أم يسر.

 

الآثار الاجتماعية للصوم:

لا تنحصر الآثار المترتبة على فريضة الصيام في الجانب الروحي والنفسي والصحي فحسب، بل انها تتعدى لتشمل الجانب الاجتماعي بشكل واسع وكبير. حيث تخلق هذه الفريضة المباركة نوعاً من التمازج الاجتماعي والتجاذب الروحي، والتواصل القلبي وخاصة في وحدة أجوائها العبادية والبصمات الطيبة التي تتركها في القلوب سواءاً على نطاق النواة المصغرة للمجتمع (الأسرة) أو على صعيد المجتمع بأكمله. حيث انّ دقة النظام الذي تفرضه مهمة الصيام في نفس الصائم من الالتزام بحدود الصوم والإمساك عن المفطرات المحددة والمعتادة من جهة والتزامه بالوقت الشرعي للإفطار والسحر من جهة أخرى يولد لديه حالة من الانضباط والالتزام بدقة العمل ما لا يمكن أن يحققه أي نظام أرضي أو قانون مدني مهما أوتي من قوة أو نفوذ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187).

ففي لحظات الغروب ومع انطلاق صوت المؤذن الهادر بكلمة "الله أكبر" والمعلن لانتهاء وقت المنع العام "الصيام" تمتد الأيدي الصائمة في كلّ مكان إلى أوّل لقمة وتبتل الحناجر الظامئة بأوّل جرعة في وقت وأحد وفي جميع البلدان الإسلامية، وكذا ما أن يسفر الصبح بطلوع فجره الصادق تكم الأفواه وتمسك عن الطعام أيضاً بكلمة "الله أكبر".

هذا من جانب النظم والانضباط الذي يوجده القانون الإسلامي في السلوك الإنساني واما عن حالة الشعور بالمساواة ورفع الحواجز التي طالما كانت تشعر الفقير بوطأة فقره وتغري الغني وتمد في طغيانه. فيمتثل الجميع. الغني والفقير للقانون الإلهي وهو الصيام الذي هو بمثابة مقر إجباري يفرضه الله على الأغنياء ليجدوا مس الجوع فيحثهم ذلك للرحمة بالفقراء والتعاطف معهم.

سُئل إمامنا الصادق (ع) عن علة وجوب الصوم فقال (ع): "أما الصلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك لأنّ الغني لم يكن ليجد مس الجوع، فيرحم الفقير لأنّ الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع".

ومن الآثار الاجتماعية الأخرى التي يتركها شهر رمضان في تقريب الأواصر الاجتماعية وتوحيدها وشدها إلى بعض وانّه يجعل المجتمع مجتمعاً متراحماً متواداً تقل فيه المعصية، فالمجتمع الذي يتواصى أفراده بالحقّ والصبر والمحبة والعطف، ويدرء عنه أيضاً البغضاء والشحناء والتحاسد وفي المقابل يتحلى بكلّ معاني الخير والإحسان والجود، فهو مجتمع تقل فيه الشرور، ويزداد فيه الخير والفضيلة وأحلى ما يميز هذا الشهر إضافة إلى ما سبق محافل القرآن – لكلّ شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان – ومجالس الذكر والدعاء، ومآدب الإفطار والأحكام التي تضفي جميعها ألوان المحبة والتآلف وتجعل من المجتمع المسلم مجتمعاً مؤمناً متكافئاً متماسكاً.

فلنشد العزم ولننتهل من هذا البحر الزاخر بالعطاء ونجعله منطلقاً للتغيير والعمل في منهاجنا الحياتي المقبل وفق تعاليم الإسلام الحقة.►

ارسال التعليق

Top