لتربية الطفل صحيحاً مُعافى من الناحية النفسية، يجب عليكم أولاً أن تسمحوا له بالتعبير عن مشاعره. ولكن الوقائع تقول للأسف غير ذلك. فمعظم الآباء والأمهات لا يتيحون لأطفالهم التعبير عن مشاعرهم بحرية.
إليكم مثالاً واحداً على ذلك من بين مئات التي يمكن أن تلاحظوها في المجتمع.
مثلاً أنصتوا إلى محادثة في إحدى الحدائق، بين أم وطفلها، حيث تكون الأم برفقة طفلها الذي يتجاوز عمره الرابعة، يكون الطفل غاضباً جداً من أخته لأمر ما وبادرها بالقول: أنا أكرهك، هل تعتقدون أن الأم أجابت: جيّد كيف تشعر نحوها. بالطبع لا، لقد اجابته قائلة: هذه أختك الحلوة الصغيرة، أنت لا تكرها. أنت تحبها.
هذه كذبة والطفل الصغير يعرف ذلك. إنّ أمه تحاول أن تجعله يغش في مشاعره، فهي بالطبع لا تستطيع تعليمه دفن مشاعره في الأعماق، لكي تظهر على السطح لاحقاً بطرق مستترة، كضرب أخته عندما تكون أمه غافلة عنهما.
إنّ هذا المثل والمئات غيره مما يمكن ذكره، يظهر لنا كيف أن الأهل لا يسمحون عادة لأطفالهم بالتعبير عن مشاعرهم، بل إنهم يحبطون لهم هذه المشاعر. وهذا ينطبق على كلّ المشاعر التي تعتبر سلبية، كالغضب والخوف والخجل والألم وفقدان الأمل.
أما المشاعر الوحيدة التي لا تحاولون منع طفلكم من التعبير عنها فهي المشاعر الإيجابية مثل الحب والعطف. فلا تلاحظوا أماً تحاول تغيير طفلها عن مشاعر الحب عندما يقول: أنا أحبك يا أمي.
لماذا تتصرفين بهذه الطريقة؟ لماذا لا تسمحين لطفلك بالتعبير عن مشاعره السلبية؟ هناك سبب بسيط جداً. هو أنك عندما كنت طفلة لم يكن مسموحاً لك التعبير عن مشاعرك السلبية. وهكذا، بطريقة غير إرادية، نقلت هذه الإحباطات النفسية إلى طفلك.
يجب أن تسمحي لطفلك بالتعبير عن مشاعره، السلبية منها والإيجابية، بحرّية، فعندما يسمح للطفل بالتعبير عن مشاعره السلبية وإيجاد طريق لها خارج نفسه، فإن المشاعر الإيجابية تجد طريقاً لها لتأخذ مكانها. إذا لم تسمحي له بالتعبير عن غضبه وعدائيته وإخراجهما من داخله، فإن الحب والعطف لن يجدا طريقهما إليه.
المشاعر المكبوتة تؤدي إلى صحة نفسية سيئة. والأطفال عادةً يميلون إلى التعبير عن مشاعرهم إلى أن تحولي بينهم وبين ذلك. ولهذا تجدين أن طفلين في الحي كانا يتعاركان بحدة في الصباح، سرعان ما يعودان ليصبحا صديقين في المساء. لكن والدي هذين الطفلين يحملان الضغينة في نفسيهما لشهور. إنّ أحد الأشياء الأساسية التي يتعلمها الكبار الذين يعانون مشكلات نفسية، في العلاج النفسي، هو كيفية التعبير عن مشاعرهم بشكل ملائم. ولكن لو أنك علمتهم التعبير عن مشاعرهم بالشكل الملائم عندما كانوا لا يزالون صغاراً، لتمتعوا بصحة نفسية جيدة عندما أصبحوا كباراً.
من المستحيل بالنسبة إلى طفلك الصغير أن يكبت فقط المشاعر السلبية، مثل الغضب والخوف من دون أن يمتد ذلك الكبت إلى مشاعر أخرى أيضاً، فإذا علمت طفلك كبت مشاعر الغضب والخوف، فربما ينتهي بك الأمر، بغير إرادة منك، إلى تعليمهم كبت المشاعر الإيجابية مثل الحب والعطف أيضاً.
لا يحتاج طفلك فقط إلى السماح له بالتعبير عن مشاعره، بل يحتاج أيضاً إلى أن يعرف أنك تتفهمين حقيقة ما يشعر به، عندما يكون خائفاً أو يائساً أو غاضباً. فكيف تستطيعين أن تُظهري إلى طفلك أنك تتفهمين مشاعره؟
يمكنك أن تفعلي ذلك بطريقة سطحية بأن تقولي له ببساطة، أنا أعلم كيف تشعر، ولكن هذا سهل جداً وعفوي ولن ينجح في إقناع طفلك بالضرورة. هناك طريقة أفضل لتنقلي إليه تفهك العميق لما يشعر به. ولقد اكتشفت هذه الطريقة لأول مرة في أربعينات القرة العشرين بواسطة عالم النفس الدكتور كارل روجرز، وأطلق عليها اسم (عكس المشاعر).
تقنية الارتجاع (عكس المشاعر)
وهي تعمل على النحو الآتي: تظهرين لشخص آخر أنك تتفهمين حقاً كيف يشعر وذلك عبر صياغة مشاعره بكلماتك الخاصة وعكسها إليه مرة أخرى مثل المرآة. وتسهل ممارسة هذه الطريقة مع طفل في الثانية من عمره، حتى تعكسين مشاعرك نحوه عن طريق استعمال الكلمات نفسها التي استخدمها في التعبير عنها.
مثال على ذلك، يأتي إليك طفلك باكياً وساخطاً ويقول: "لقد ضربني صديقي"، في مثل هذه الحالة، ومثل معظم الأمهات تتذمرين قائلة: ها نحن نعيش القصة نفسها مرة أخرى، ثم تستدعين الطفلين، ويبدو المشهد كأنه قاعة المحكمة: وتقولين أخبراني من بدأ بهذا الأمر؟ وتقومين بدور القاضي. فعندما يأتي إليك طفلك الصغير قائلاً: لقد ضربني صديقي تستطيعين الإجابة مع إظهار التجاوب الشعوري: ضربك صديقك والآن أنت غاضب لأنه ضربك، أو بعبارة أخرى إن ما يجعلك غاضباً هو أن صديقك ضربك.
إنّ ما قمت به هو من تعبير عن مشاعره بكلماتك الخاصة وعكستها إليه مرة أخرى. يطلق على هذه العملية اسم تقنية الارتجاع، لأنك ترجعين (تعكسين) إلى طفلك مشاعره الخاصة، وبهذا تظهرين له أنك تتفهمين مشاعره الحقيقية.
هناك قصة تُبين الآلية التي تعمل بها هذه التقنية. تحكي سيدة تعمل جليسة أطفال لإحدى العائلات. وضع الوالدان ابنهما في سريره وخرجا في المساء، وفجأة خرج الطفل من غرفته متوتراً وقال لها: "هناك ذئباً في الغرفة". تصرفت هذه الجليسة بهذه التقنية، وهي لولا تعلمها هذه التقنية لتعاملت مع الحالة بطريقة خاطئة، مثل معظم الآباء والأمهات، وربما كانت ستقول:"هذا أمر سخيف. أنت تعلم أنّه ليس هناك ذئب في الغرفة" وكانت ستجول معه في الغرفة لتريه أنّه ليس هناك ذئب. وهو أمر ما كان ليفيد شيئاً في تهدئة خوفه. ولكنها بدلاً من هذا التصرف الشائع والخاطئ استعملت أسلوباً مختلفاً. لقد أرجعت إليه مشاعره الخاصة.
قالت له:" اجلس هنا وأخبرني كيف تشعر حيال هذا الذئب". فأخبرها كم كان خائفاً منه. فأرجعت إليه مشاعره قائلة عبارات على هذ النحو:"أنت فعلاً تشعر بالخوف من هذا الذئب"، "هذا الذئب الهرم أخافك كثيراً" وهكذا. لم تحاول طمأنته ولم تحاول أن تكذب مشاعره. بل قامت بكلّ بساطة، بعكس المشاعر التي عبر عنها إليه مرة أخرى. لقد أخبرها كم كان خائفاً من الذئب وكم يكرهه وكيف سيدفعه ويلقيه في البحر. وأخيراً بعد حوالي عشرين دقيقة لم تفعل خلالها شيئاً سوى عكس مشاعره إليه، استدار إليها وقال: "استطيع العودة إلى النوم الآن". فعادت به إلى غرفته ووضعته في سريره وفي بضع دقائق كان مستغرقاً في النوم.
جرّبي هذ الطريقة إنّها تتمتع بآلية تصحيح ذاتي. وإذا لم تعكسي مشاعر الطفل إليه بطريقة صحيحة، فسيقول لك:"كلا، ليس هذا ما أشعر به".
إنّ تقنية الارتجاع هذه سهلة الفهم ولكنها صعبة الممارسة. والسبب في ذلك أنّنا نحن الكبار لم نتربَّ عليها عندما كنا صغاراً. لقد أمضينا سنوات عديدة من أعمارنا ونحن نحاول طمأنة الآخرين، وإسداء النصيحة لهم، أو تغيير مشاعرهم، خاصةً عندما تكون هذه المشاعر السلبية. ولهذا، فإنّ هذه التقنية تُناقض تماماً الطريقة التي تربّينا بها ونشأنا عليها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق